39 الإهداء إلى خريفٍ عبثَ بالجمال… ورحل. يومها، صوّر لي حبُّك عالمًا سحريًا غير هذا العالم،فنبت لي جناحان بريشان ناعمان كأحلامي الجديدة اللينة،حلّقت بي حتى نزلتُ ضيفةً بين الأنجم والشهب،ولمعت عيناي كنجمتين في سماءٍ صافيةٍ كصفاء فرحتي حين همستَ لي:“أحبكِ… أعبدكِ”. تعطّرت صباحاتي بـ:“صباح الخير مولاتي، صباح الخير أسرتي، صباح الخير ملكتي…”فظننتني ملاكًا يلمس السماء،ويقبّل القمر،ويلفّ الشمس بحضنه الساخن عشقًا حراقًا ألهب الفؤاد،فأمسى كسراجٍ وهاجٍ ينير لي الدروب،ويقود قدمي إليك. كان ذلك في بداية الخريف،حين لملم الصيف أثوابه التي هتكت الشمس جمال ألوانها،فبهت سحر الشماسي على الشواطئ،وانشغل الموج بتجديد جحافل عبابه وتطهيرها،بشنّ غارات مدٍّ وجزرٍ، فرٍّ وكرٍّ. وباتت الرمال باكيةً لفراق أحبةٍ هنا تواعدوا،أو هناك همسوا بكلمات حبٍّسرعان ما داسها الموج الغادر،فمحا كل الأسماء، ومسح كل الذكرياتالتي كانت كأطياف الرؤى في أحداق طفلٍ بين أجنحة السبات. رحتُ ألقي آخر نظرةٍ على البحر،فرأيتك تلقي صنارتك في الماء، ولا تمل،حتى وقع قلبي في شصِّ عينيك الجميلتين،ونزعتني من بحر الهدوء إلى ميناء الانتظار. تكرّرت لقاءاتنا،فلم يعد الشاطئ يسع فرحتي بحبك،فامتدت إلى الحدائق والمقاهي والأماكن الجميلة،أرسم أول حرفين من اسمينا على الأغصان وجذوع الأشجار والمقاعد الخشبية،وأصرخ في دروبنا الخالية:“أحبك، أحبك، أحبك!” فيردّد الصدى صوتي، وتجيبني:“أعشقك، أعبدك يا مولاتي…”فتختلط قهقهاتي برجْع الصدى شاهدًا على هذا الميثاق المتين. يومها، حطّ في أحشائي الربيع،فأصابتني جذوته الساحرة،وصار خدّي أسيلا، وخصري نحيلا،وشعري سنابل قمحٍ نضجت في سوقها،وألهبت عيون الحاصدين وقلوب البيادر في موسمٍ وفير. يومها، حلفتَ لي أنك لي،وأنك ملك يميني،وحلفتَ أنك حبيبي لوحدي،وكان قسمك غليظًا متينًا،وشددتَ على أصابعي، وحضنتَ كفّي بين كفّيك،وغبنا في همساتٍ ونظراتٍ وقبلاتٍ،يومها همستَ أن القلب بين جنبيك ينبض بي،يدقّ برنين اسمي حبًّا وهيامًا،وناداني حضنك أنه مسكني، وأيكي الذي أستظلّ به،وأن حضني جنةٌ خالدةٌ لحبّنا. وهِمتُ بك كمجنونةٍ تبحث عن عقلها،واقتفيتُ آثار خطواتك،وأحببتُ أماكن لقيانا،تعصر لي فيها كلماتُ الهيام نبيذًا مسكرًا. أعلمتني بسفرك المفاجئ،وبكيت على كتفيك ما لم أبكِ،وطال غيابك، رغم أن أسبوعًا لم يكتمل. وذاتَ عصرٍ، وقد دفعني الشوق إليك وأنت غائبٌ عن عيني،كتبتُ قصائدَ حبٍّ لأول مكانٍ جمعنا،على وجه الشاطئ… فرأيتكما معًا.نعم، رأيتكما معًا…عيناك في عينيها،كفّاك قد غمرتا كفّيها،تتحدّيان الشوق بالقبلات، بالهمسات، بالنظرات. ألم تقل: حبيبتي، سأسافر؟ألم تقل كلامًا كثيرًا وتذرف دموعك خوفًا من البعاد؟ ماهرٌ أنت في خداعي،بارعٌ في تقمّص دور العاشق،حين قلتَ: حبيبتي، أنا مسافر وسأشتاق… فعلاً، لقد سافرتَ من قلبي، من عيوني، من جفوني،من لهيب الشوق، من حياتي… إلى غير رجعة. ونسيتَ حبي كله.وجريتُ في خطواتٍ متعثّرةٍ ثقيلةٍ موجعة،وعبراتي تصرخ: “ليتني ما أحببتك يومًا!” حبيبتك المخدوعة. وضعتُ الرسالة تحت باب شقّتك، وعدتُ إلى البيتمحمولةً في جنازةٍ يشيّعها الحزن إلى المجهول،فقد بات العالم من حولي لا يمتّ لي بصلة،لأنه كان — باختصارٍ شديد — كلَّ العالم. لم أقدر على نسيانك رغم جرحي العميق،وحقدي الكبير عليك،واقتفيتُ آثارك أيامًا وأيامًا،ووجعٌ يشقّ صدري، وقد أريق دمي على الدروبالتي كانت عوسجًا أتلذّذ المشي عليهلعلّ قلبي يتوب من هواك. وما هي إلا أيام حتى وجدتك مع فتاةٍ أخرىغير التي رأيتك معها أول مرة،أما الأولى فما زالت مثلي تقتفي خطى حبٍّ خادع،كسرابٍ كاذبٍ في يومٍ صيفيٍّ قائظ. شكت لي ما ألمَّ بها من وجع،ورويتُ لها آهاتي وجرحي النازف. تعمدنا انتظارك مع حبيبتك المخدوعة الثالثة،واستأذناكما بالجلوس معكما،فاصفرّ وجهك، وبان عليك الارتباك،وتقطّعت كلماتك وأنت تحاول التملّص،لكننا حاصرناك من كل الجهات،وسردنا على مسمعها الأسطوانة المعروفةالتي كنت تسحرنا بها،وأريناها رسائل الحبّ الصباحية والمسائية وصورك الشخصية. صاحت متألمةً:“هي نسخٌ مطابقةٌ للأصل تستنسخها لكل أنثى أيها اللعين،كخيوط عنكبوتٍ يلفّها على ضحيته حتى يسهل صيدها!” سكبت على وجهك وملابسك المشروب، وغادرت معنالاعنةً الصدف التي جمعتها بك. اشتركنا في نفس المقلب الذي جمعنا،لنصبح صديقاتٍ حميماتٍ نتندر،كلما التقينا، بتلك الخيباتالتي محت وجعها الأيام.