الصفحة الرئيسية قصّة قصيرة ياسر الخربطلي من سوريا يكتب “سئمت من الذهاب يا أمي!!”

ياسر الخربطلي من سوريا يكتب “سئمت من الذهاب يا أمي!!”

قصّة قصيرة بعنوان "عَودة السنونو"

51 مشاهدات 3 دقائق اقرأ

فتح نافذة غرفته، فابتسمت له الشمس وأرسلت إليه قُبلات ذهبية سرعان ما تغلغلت في جسده النحيل وسرت في عروقه دفئاً يزيد أمله برؤية طيور السنونو التي راحت مُقلتاه تبحثان عنها في بحر السماء الرحبة، لكن عبثاً تحاولان. وراح يدور في خلد الصغير سؤال يتيم لا يعرف لمن يوجهه:

لماذا تأخّر مجيء طيور السنونو؟

نعم، طيور السنونو ليست هي المتخلّفة عن الموعد، ولم تكن عديمة الوفاء أو متصلّبة الأحاسيس، وإنما أيام الشتاء هي التي استطالت هذه السنة. وقد تمرّد الشتاء على إخوته، لعلّه يريد أن يتفاخر بسلطانه وهيبته، إضافة لامتلاكه أسلحة فتّاكة: الصواعق، والأعاصير، والعواصف، والزمهرير. لذلك لا يقوى فصل الربيع على مجابهته، فهو لا يحوز إلا على قوى ناعمة: جدائل شمس خجولة، أجنحة فراشات غضّة، أزاهير طرية، وزقزقات لا يهتزّ لها سوى الوجدان.

أغلق عمران نافذة العلية، وعاد إلى سريره ليستلقي، ويحلم بيوم جديد يرى فيه طيور السنونو تحوم كعادتها كل سنة حول نافذته، ويقدّم لها بقايا طعامه وبعض كسرات الخبز، فهي لم تعد تخافه كما تخشى طفلاً عابثاً، بل بنت لها عشاً بجوار نافذته.

أغرق عمران في النوم ليستيقظ على لمسات يد أمه تداعب وجنتيه وتمسح رأسه، وكأن جنة أحاطت بروحه.

كانت عينا الأم تحدّقان بالصغير وتحبسان خلفهما فيضاناً من الدموع، لكنها تتماسك أمام ولدها وتتظاهر بالقوة والهدوء:

  • الأم: هيا، انهض يا ولدي، فاليوم هو موعدنا مع الطبيب.
  • عمران: سئمت من الذهاب يا أمي، ولم يمض وقت طويل على زيارتنا الأخيرة له.
  • الأم: تحمّل يا صغيري، أدرك ذلك، لكن من الضروري أن نذهب اليوم.

قالتها الأم والألم كالخنجر مغروس في قلبها، فطفلها لا يعلم سبب تكرار الزيارات إلى الطبيب: مرضه عضال. فلو كان المرض رجلاً لقتلته، ولو كان بإمكانها أن تخسر من صحتها لأعطته، لكنها تقف عاجزة مقيّدة، تذوب وتذوي كما يذوي القضيب من الرند.

تمالكت الأم نفسها واستجمعت قواها لتبدو صلبة متماسكة أمام ولدها، أنهضته وهي تحتضنه وساعدته في ارتداء ملابسه.

خرجا والسماء تتزاحم فيها الغيوم، وبدت كأنها عجوز عبوس.

صعدت الأم السيارة وهي تدسّ رأس صغيرها تحت معطفها، لعلها لا تريده أن يشاهد تجهم السماء.

وفي الطريق ظلت يدا الأم تتناوبان صعوداً وهبوطاً على ظهر الصغير، وكأنهما تحاولان أن تولّدا في ذلك الجسد المتهالك شعوراً من الطمأنينة والأمان.

وصلا العيادة وهمّا في الدخول. انتظرا بضع دقائق حتى ولجا غرفة الطبيب الذي بدوره رحّب بهما وأسرع إلى الصغير ليمازحه ببعض الكلمات، محاولاً أن يبث الأمل في نفسه. فالطبيب مدرك تماماً لحالته المأساوية. عاينه بدقة، ثم طلب منه إجراء بعض التحاليل والصور. وعلى الفور تولّت الأم المهمة.

وبعد سويعات ظهرت بعض النتائج، وهنا استقصدت الأم أن تكون منفردة بالطبيب:

  • الأم: طمئني، هل من تحسن أو تجاوب، هل من أمل؟
  • الطبيب (تكاد الكلمات تتحجّر في شفتيه): لا أعرف ماذا أقول. المرض قد غرس جميع أنيابه في جسد الصغير.
  • الأم: قل شيئاً غير ذلك، سأفعل أي شيء. أسافر به إلى الخارج، أقتطع من جسدي وأزرعها في جسده.
  • الطبيب: أقدّر مشاعرك كأمّ وصعوبة الموقف، لكن الطب يقف عاجزاً هنا، وفي النهاية هي مشيئة الله.

هنا جمدت الأم وتمنّت في هذه اللحظة أن تتحول إلى تمثال خاوٍ من المشاعر والأحاسيس. لكن سرعان ما استعادت أمومتها وامتطت صهوة شجاعتها، ومسحت دموعها التي لم تشعر بتساقطها أصلاً.

وانطلقت إلى صغيرها وأمسكته بقوة واتخذت سبيل العودة إلى المنزل، وعبرات مقلتيها تكاد تغرق ولدها، الذي يسألها عنها فتجيبه:

  • إنها دموع فرحي بخبر شفائك!

لكن هذه الدموع كانت كالحمم التي ينفثها بركان منفجر. نعم إنه فؤاد الأم المكلوم.

وصلا البيت وتظاهرت الأم برباطة الجأش أمام أفراد الأسرة وكأن الزيارة كمثيلاتها.

مضت أيام، وعمران ينتظر في العلية عودة أصدقائه الطيور، وقواه تخور وشوقه يزداد كشوق محب عاشق.

إلى أن أعلنت الطبيعة نهاية النزال بين الشتاء والربيع، وعلى الأرجح فإن الشتاء رحل طوع نفسه، فلا أحد يجاريه قوة.

وفي ذات يوم ربيعي سمعت الأسرة صوت جلبة في العلية، مع أنهم كانوا مع عمران منذ وقت قريب، فهم لا يفارقونه بعد تدهور حالته. ازداد الصخب وعلت أصوات متداخلة. هرعوا جميعاً إلى العلية، وفي مقدمتهم الأم التي أحسّت بأن قلبها طار من ضلوعها. فتحت الباب فكان المشهد الرهيب:

عمران يزحف إلى النافذة، فطيور السنونو قد جاءت، لكن الموت كان أسرع من الطيور إلى روح عمران، روحه التي طالما انتظرت عودتهم.

كانت كفا عمران ممتدتين إلى النافذة تريد فتحها، وطيور السنونو تضرب بمناقيرها زجاج النافذة، وكأنها تريد أن تحطمه لعلها تصل إلى عمران.

النهاية

  • كاتب سوري
    سورية - إدلب إجازة في اللغة العربية الخبرات: مدقق لغوي عضو سابق في مركز البناء الإنساني في دمشق أحمل شهادات في تمكين اللغة العربية والتخطيط التربوي والاستراتيجي كاتب محتوى عملت مع جهات كثيرة في كافة الاختصاصات السابقة كاتب في مجال القصة والخاطرة والمقالة شهادة في الموارد البشرية

اقرأ أيضا

أترك تعليقا