217 مقدمة:تندرج القصيدة ضمن شعر المقاومة الرمزية، حيث يوظّف الشاعر شخصية “أبرهة” ـ العدوّ القرآني الذي جاء لهدم الكعبة سنة الفيل ـ باعتبارها استعارة كبرى للهيمنة الخارجية المعاصرة، وللنظام السياسي الذي يجعل من القوة المادية (الفيل، السطوة، المال، النفط) وسيلة لفرض إرادة الآخر على الأمة وتكشف القصيدة عن خطاب نقدي مزدوج: نقد الغزاة الجدد ونقد قابليّة الداخل للاستلاب لذلك فهي قصيدة احتجاج، تنتمي من حيث البنية إلى شعر التهكم السياسي، ومن حيث المرجعية إلى السرديات القرآنية والمؤسَّس المتخيّل للذاكرة العربية أولًا: الرمزية المركزية – أبرهة العصر الأشقريحمل العنوان دلالات كثيفة فـ”أبرهة” هو الرمز التاريخي للغزو، أما وصفه بـ”الأشقر” فيحيل إلى الغرب الإمبراطوري، أو القوى البيضاء ذات الهيمنة، أو الفاعل الدولي الحديث الذي يتدخّل في مصائر الشعوب العربية العنوان هنا صيغة استعادة، يربط الماضي بالحاضر، ويعيد إنتاج قصة “سنة الفيل” خارج سياقها القديم لتصبح تمثيلًا لواقع سياسي راهن ثانيًا: الحوار الساخر مع “الغازي” – تقنية الخطاب المعكوسيستقبل الشاعر الغريب بعبارات ترحيب ظاهر، لكنها مشحونة بالسخرية المريرة: “أهلا بكم يا سيدي يا أبرهة / هذي المدائن من قفاكم مفقرة”“هلا نزلتم فالقصور قصوركم / فيها الإماء المونقات المبهرة” الترحيب ليس اعترافًا، بل إدانة مُضمرة، إذ يحمّل “أبرهة” مسؤولية الفقر، ويُسند إليه ملكية القصور والجواري، في إحالة مباشرة إلى تبعية النخب العربية للغرب/الهيمنةالقصيدة تقوم على المفارقة بين لغة المديح الشكلية والاحتجاج السياسي العميق ثالثًا: تكسير القداسة المزيّفة للغزو المعاصريتساءل الشاعر، بنبرة نقدية: “عفوًا مليكي لم يعد فينا القِرى / ماذا قرانا والمدينة منكرة” إنه ينكر فكرة أن الغزو يجلب المدنية أو الحداثةالمدينة هنا منكرة: فاقدة لهويتها، مغتربة عن ذاتها، بعد أن “سُكّت” طرقها ووجهتها على مقاس الغريب: “كيف اجترأنا أن نشيح بوجهنا / عن قبلة كنتم سككتم معبره” البيت، القبلة، الطريق… كلها استعارات لمركز الأمة الرمزي الذي تمّت إعادة هندسته من الخارج رابعًا: قراءة في intertextuality القرآنية والتاريخيةتستدعي القصيدة شبكة من الرموز القرآنية:1- سورة الفيل:الفيل → آلة الهيمنة المعاصرةأبرهة → القوة المهاجمةالطير الأبابيل → غياب النصرة اليومالحجارة → إنهاك أدوات المقاومة2- أبو رِغال:يرد في خاتمة القصيدة: “الكل صار تطوعًا كأبي رِغال / والبيت لا رب لديه لينصره” أبو رِغال رمز الخيانة الداخلية في الذاكرة العربية الإسلامية، وهنا يتحوّل إلى توصيف لحالة جزء من النخب3- البيت، النوق، النحر، الحجاز، مكة، الدوحة، أنقرة:كلها إحالات جغرافية وقيمية، ترسم خريطة عربية-إسلامية مفكّكة، فقدت وحدة العصبية خامسًا: نقد الداخل – قابلية الاستعمار وأزمة الإرادةالقصيدة لا تكتفي بجلد الغازي، بل تفضح هشاشة الداخل: “ماتت لدينا النوق نحرًا سبّة / والبيت يرجو بالحجير المغفرة” النوق رمز القدرة على المقاومة، والبيت رمز الأمةيقدّم الشاعر صورة أمة قتلت أدوات قوتها بيدها، ثم تطلب المغفرةوفي تصوير آخر: “هذا قطيع شتّت أغنامه / والذئب مرتاح وولّى أصغره” الأغنام → الشعوب،الذئب → الغازي،الأصغر → الوكلاء المحليون سادسًا: تشريح خطاب القوة المعاصرةفي القسم الأخير، يقدّم الشاعر صورة القوة التي تملك الأدوات ولكن تفتقد الروح: “يا أيها الصنديد يصدأ سيفكم / لو هم يومًا أن يمدد منخره” السيف يصدأ بمجرد الحركة؛هي قوة هشة، رغم ما يبدو عليها من جبروتوهنا قلبٌ للحكاية القرآنية:القوة المادية (الفيل) لم تعد سبب الانتصار، بل سبب الوهمويختم بانتصار روحي: “فأمتي قامت تقاوم من يشتت جوهره” جوهر الأمة – قيمها، تاريخها، قدرتها على النهوض – ما يزال حيًا سابعًا: القراءة البلاغية1- المفارقة والسخرية السوداءأغلب القصيدة قائم على خطاب المديح، لكنه مديح تهكمي يعرّي الواقع2- التكرار الرمزيتعود مفردات:البيت، الفيل، الزيت، النخل، النوق، الحجارةلتشكّل حقولًا دلالية تربط بين الماضي والحاضر3- الانزياح بين الحقل الديني والسياسييمنح القصيدة طاقة احتجاجية عالية، ويجعل النصّ جزءًا من “نصّ أوسع” هو التاريخ ثامنًا: البعد السياسي العام للقصيدةيمكن قراءة القصيدة بوصفها:نقدًا لاستباحة السيادة العربية،نقدًا لتحالف بعض النخب مع الخارج،رفضًا لاختزال المنطقة في موارد (النفط، الممرات، الأنظمة الأمنية)،تحذيرًا من تحوّل الأمة إلى فضاء بلا مناعة رمزيةوهي من هذا الجانب تنتمي إلى الشعر السياسي المقاوم الذي عرفه عصر ما بعد 1967، وتمتد جذوره إلى المتنبي وأبي تمام في هجاء الطغاة وكشف هشاشتهم خاتمة:تمثل قصيدة “أبرهة العصر الأشقر” عملًا أدبيًا سياسيًا يُعيد كتابة سردية “عام الفيل” داخل الواقع المعاصر، ويجعل منها أداة نقدية لفهم العلاقة بين الغزو الخارجي والانقسام الداخليوتتميّز بلغة عالية، مكثّفة، ومشحونة بمرجعيات دينية وتاريخية، تُعيد للقصيدة العربية وظيفتها الأصلية: أن تكون بيانًا سياسيًا وروحيًا ضد الظلم نصّ القصيدة:أبرهـــــــــة العصر الأشقر أهلا بكم يــا سيِّدي يا “أبرهة”هذي المدائن من قفــاكم مفقرة هلاَّ نزلتم فالقصــــور قصوركمفيها الإمـــاء المونقات المبهرة يا صـاحب الفيل العظيم هَلُمَّ خُذْهذي الجفـان والدمى والمبخرة عفوا مليكــي لم يعد فينا القِرىمــــــاذا قِـــرانا والمدينة منكِرة عفوا فإنَّا لم نجدْ في درسكممــــا يستفــاد فالرجــــاء المعذرة لو كـان فينا من يترجم خَطْبَكمكنَّـا اتَّبعنا فــي الطريق المسطرة كيف اجترأنا أن نشيح بوجهناعن قِبلــة كنتم سَكَـكْـتُمْ مَعْبَــــرَه أنتم بذرتم للحقــــــول حَسِيكَهَاأنتم شربتم من زيـوت المعصرة أنتم جعلتم نفطكم في أرضناوالنخل والزيتــــــون منكم مُسجره من مجد هذا البيت؟ أنتم أهلهوالكرْم أنتم قد شَـــــربتم مسكره عذرا إذا جئنـــــا حفـــاة سُرَّعاوحريمنا عند الصحارى مسفرة مـــاتت لدينا النُّــوق نحرًا سبَّةوالبيت يرجــو بالحجير المغفرة لا فرق بين حجــازنا لو ترتعيأو دوحـــــــة أومكــــة أو أنقرة هذا قطيـــع شتت أغنـــــــــامهوالذئب مرتــــــاح وولّى أصغره لا حـاجة “للفيل” يسبق ركبكمأرض النضال قد كستهـــــــا المقبرة لا ضير عندي لو تُحلّل مخدعٌفالشرق أضحى من خطاكم مندرة الطير أضحى بالحجارة متعباوالكبش يبدي للذبيـــــــح منحره الكل صار تطوعا كـ”أبي رغال”والبيت لا ربّ لديـــــــه لينصره جاء الغريب مسـافرا عند المدىحتـى يهد أو يلـــــــوث مرمره وأستُقزمت في أعيني كل الرؤىلم يبلغ الطــــــول لدينا أقصره يا أيها الصنديد يصدأ سيفكملو همّ يوما أن يمدد منخره يا أشرم العصر الرديء فأمتيقامت تقاوم من يشتت جوهره الشاعر والناقد عمر الشهباني