الصفحة الرئيسية القصيدة العمودية عمر الشهباني: يقدّم قراءة لقصيدته “ابرهة العصر الأشقر”

عمر الشهباني: يقدّم قراءة لقصيدته “ابرهة العصر الأشقر”

217 مشاهدات 3 دقائق اقرأ

مقدمة:
تندرج القصيدة ضمن شعر المقاومة الرمزية، حيث يوظّف الشاعر شخصية “أبرهة” ـ العدوّ القرآني الذي جاء لهدم الكعبة سنة الفيل ـ باعتبارها استعارة كبرى للهيمنة الخارجية المعاصرة، وللنظام السياسي الذي يجعل من القوة المادية (الفيل، السطوة، المال، النفط) وسيلة لفرض إرادة الآخر على الأمة

وتكشف القصيدة عن خطاب نقدي مزدوج: نقد الغزاة الجدد ونقد قابليّة الداخل للاستلاب لذلك فهي قصيدة احتجاج، تنتمي من حيث البنية إلى شعر التهكم السياسي، ومن حيث المرجعية إلى السرديات القرآنية والمؤسَّس المتخيّل للذاكرة العربية

أولًا: الرمزية المركزية – أبرهة العصر الأشقر
يحمل العنوان دلالات كثيفة فـ”أبرهة” هو الرمز التاريخي للغزو، أما وصفه بـ”الأشقر” فيحيل إلى الغرب الإمبراطوري، أو القوى البيضاء ذات الهيمنة، أو الفاعل الدولي الحديث الذي يتدخّل في مصائر الشعوب العربية العنوان هنا صيغة استعادة، يربط الماضي بالحاضر، ويعيد إنتاج قصة “سنة الفيل” خارج سياقها القديم لتصبح تمثيلًا لواقع سياسي راهن

ثانيًا: الحوار الساخر مع “الغازي” – تقنية الخطاب المعكوس
يستقبل الشاعر الغريب بعبارات ترحيب ظاهر، لكنها مشحونة بالسخرية المريرة:

“أهلا بكم يا سيدي يا أبرهة / هذي المدائن من قفاكم مفقرة”
“هلا نزلتم فالقصور قصوركم / فيها الإماء المونقات المبهرة”

الترحيب ليس اعترافًا، بل إدانة مُضمرة، إذ يحمّل “أبرهة” مسؤولية الفقر، ويُسند إليه ملكية القصور والجواري، في إحالة مباشرة إلى تبعية النخب العربية للغرب/الهيمنة
القصيدة تقوم على المفارقة بين لغة المديح الشكلية والاحتجاج السياسي العميق

ثالثًا: تكسير القداسة المزيّفة للغزو المعاصر
يتساءل الشاعر، بنبرة نقدية:

“عفوًا مليكي لم يعد فينا القِرى / ماذا قرانا والمدينة منكرة”

إنه ينكر فكرة أن الغزو يجلب المدنية أو الحداثة
المدينة هنا منكرة: فاقدة لهويتها، مغتربة عن ذاتها، بعد أن “سُكّت” طرقها ووجهتها على مقاس الغريب:

“كيف اجترأنا أن نشيح بوجهنا / عن قبلة كنتم سككتم معبره”

البيت، القبلة، الطريق… كلها استعارات لمركز الأمة الرمزي الذي تمّت إعادة هندسته من الخارج

رابعًا: قراءة في intertextuality القرآنية والتاريخية
تستدعي القصيدة شبكة من الرموز القرآنية:
1- سورة الفيل:
الفيل → آلة الهيمنة المعاصرة
أبرهة → القوة المهاجمة
الطير الأبابيل → غياب النصرة اليوم
الحجارة → إنهاك أدوات المقاومة
2- أبو رِغال:
يرد في خاتمة القصيدة:

“الكل صار تطوعًا كأبي رِغال / والبيت لا رب لديه لينصره”

أبو رِغال رمز الخيانة الداخلية في الذاكرة العربية الإسلامية، وهنا يتحوّل إلى توصيف لحالة جزء من النخب
3- البيت، النوق، النحر، الحجاز، مكة، الدوحة، أنقرة:
كلها إحالات جغرافية وقيمية، ترسم خريطة عربية-إسلامية مفكّكة، فقدت وحدة العصبية

خامسًا: نقد الداخل – قابلية الاستعمار وأزمة الإرادة
القصيدة لا تكتفي بجلد الغازي، بل تفضح هشاشة الداخل:

“ماتت لدينا النوق نحرًا سبّة / والبيت يرجو بالحجير المغفرة”

النوق رمز القدرة على المقاومة، والبيت رمز الأمة
يقدّم الشاعر صورة أمة قتلت أدوات قوتها بيدها، ثم تطلب المغفرة
وفي تصوير آخر:

“هذا قطيع شتّت أغنامه / والذئب مرتاح وولّى أصغره”

الأغنام → الشعوب،
الذئب → الغازي،
الأصغر → الوكلاء المحليون

سادسًا: تشريح خطاب القوة المعاصرة
في القسم الأخير، يقدّم الشاعر صورة القوة التي تملك الأدوات ولكن تفتقد الروح:

“يا أيها الصنديد يصدأ سيفكم / لو هم يومًا أن يمدد منخره”

السيف يصدأ بمجرد الحركة؛
هي قوة هشة، رغم ما يبدو عليها من جبروت
وهنا قلبٌ للحكاية القرآنية:
القوة المادية (الفيل) لم تعد سبب الانتصار، بل سبب الوهم
ويختم بانتصار روحي:

“فأمتي قامت تقاوم من يشتت جوهره”

جوهر الأمة – قيمها، تاريخها، قدرتها على النهوض – ما يزال حيًا

سابعًا: القراءة البلاغية
1- المفارقة والسخرية السوداء
أغلب القصيدة قائم على خطاب المديح، لكنه مديح تهكمي يعرّي الواقع
2- التكرار الرمزي
تعود مفردات:
البيت، الفيل، الزيت، النخل، النوق، الحجارة
لتشكّل حقولًا دلالية تربط بين الماضي والحاضر
3- الانزياح بين الحقل الديني والسياسي
يمنح القصيدة طاقة احتجاجية عالية، ويجعل النصّ جزءًا من “نصّ أوسع” هو التاريخ

ثامنًا: البعد السياسي العام للقصيدة
يمكن قراءة القصيدة بوصفها:
نقدًا لاستباحة السيادة العربية،
نقدًا لتحالف بعض النخب مع الخارج،
رفضًا لاختزال المنطقة في موارد (النفط، الممرات، الأنظمة الأمنية)،
تحذيرًا من تحوّل الأمة إلى فضاء بلا مناعة رمزية
وهي من هذا الجانب تنتمي إلى الشعر السياسي المقاوم الذي عرفه عصر ما بعد 1967، وتمتد جذوره إلى المتنبي وأبي تمام في هجاء الطغاة وكشف هشاشتهم

خاتمة:
تمثل قصيدة “أبرهة العصر الأشقر” عملًا أدبيًا سياسيًا يُعيد كتابة سردية “عام الفيل” داخل الواقع المعاصر، ويجعل منها أداة نقدية لفهم العلاقة بين الغزو الخارجي والانقسام الداخلي
وتتميّز بلغة عالية، مكثّفة، ومشحونة بمرجعيات دينية وتاريخية، تُعيد للقصيدة العربية وظيفتها الأصلية: أن تكون بيانًا سياسيًا وروحيًا ضد الظلم

نصّ القصيدة:
أبرهـــــــــة العصر الأشقر

أهلا بكم يــا سيِّدي يا “أبرهة”
هذي المدائن من قفــاكم مفقرة

هلاَّ نزلتم فالقصــــور قصوركم
فيها الإمـــاء المونقات المبهرة

يا صـاحب الفيل العظيم هَلُمَّ خُذْ
هذي الجفـان والدمى والمبخرة

عفوا مليكــي لم يعد فينا القِرى
مــــــاذا قِـــرانا والمدينة منكِرة

عفوا فإنَّا لم نجدْ في درسكم
مــــا يستفــاد فالرجــــاء المعذرة

لو كـان فينا من يترجم خَطْبَكم
كنَّـا اتَّبعنا فــي الطريق المسطرة

كيف اجترأنا أن نشيح بوجهنا
عن قِبلــة كنتم سَكَـكْـتُمْ مَعْبَــــرَه

أنتم بذرتم للحقــــــول حَسِيكَهَا
أنتم شربتم من زيـوت المعصرة

أنتم جعلتم نفطكم في أرضنا
والنخل والزيتــــــون منكم مُسجره

من مجد هذا البيت؟ أنتم أهله
والكرْم أنتم قد شَـــــربتم مسكره

عذرا إذا جئنـــــا حفـــاة سُرَّعا
وحريمنا عند الصحارى مسفرة

مـــاتت لدينا النُّــوق نحرًا سبَّة
والبيت يرجــو بالحجير المغفرة

لا فرق بين حجــازنا لو ترتعي
أو دوحـــــــة أومكــــة أو أنقرة

هذا قطيـــع شتت أغنـــــــــامه
والذئب مرتــــــاح وولّى أصغره

لا حـاجة “للفيل” يسبق ركبكم
أرض النضال قد كستهـــــــا المقبرة

لا ضير عندي لو تُحلّل مخدعٌ
فالشرق أضحى من خطاكم مندرة

الطير أضحى بالحجارة متعبا
والكبش يبدي للذبيـــــــح منحره

الكل صار تطوعا كـ”أبي رغال”
والبيت لا ربّ لديـــــــه لينصره

جاء الغريب مسـافرا عند المدى
حتـى يهد أو يلـــــــوث مرمره

وأستُقزمت في أعيني كل الرؤى
لم يبلغ الطــــــول لدينا أقصره

يا أيها الصنديد يصدأ سيفكم
لو همّ يوما أن يمدد منخره

يا أشرم العصر الرديء فأمتي
قامت تقاوم من يشتت جوهره

الشاعر والناقد عمر الشهباني

  • شاعر وناقد تونسي
    أبو البيرق عمر الشهباني، شاعر وكاتب تونسي، وُلد يوم 2 ماي 1966 بقبلي الجنوبية في الجنوب التونسي. نشأ بين رمال الواحة ومناخ الصحراء، فتشرّب من بيئته روح الانتماء، وتدرّج في مساره التعليمي بين المدرسة الابتدائية بشارع الحبيب بورقيبة بقبلي والمعهد الفني، ليحصل على شهادة الباكالوريا شعبة الآداب سنة 1987. تنقّل بين تونس والمغرب في مساره الجامعي؛ درس الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس وصفاقس، ونال منها إجازة سنة 1996، كما درس بجامعة محمد الخامس بالرباط وحصل على إجازة في التصرف اختصاص الإدارة العامة من المدرسة الوطنية للإدارة العمومية، إلى جانب تدرّجه في دراسة القانون العام بالمرحلة الثالثة. زاول العمل الصحفي ككاتب ومحرر لوكالات أنباء وصحف تونسية، ورافق نشاطه الأدبي بانخراط واسع في الحياة الجمعياتية؛ من الكشافة التونسية حيث نال الشارة الخشبية سنة 1985، إلى الاتحاد العام التونسي للطلبة، وجمعية صوت نفزاوة التنموية، وغيرها من الإطارات التي أسهم في تأسيسها. أصدر سنة 1996 ديوانه الفريد المساجلات الشعرية (أجب الثورة يا علي...)، وهو عمل عربي متميّز جمع 23 سجالًا شعريًا في 2600 بيت عمودي بمشاركة أكثر من 40 شاعرًا من مختلف أرجاء الوطن العربي. إلى جانب ذلك نشر مقالات وقصائد في الصحف والمجلات التونسية، منها مجلة الاتحاف. وما يزال يعمل على إصدار دواوين جديدة في مجالات اجتماعية وسياسية وثقافية وحضارية.

اقرأ أيضا

أترك تعليقا

سجّل اسمك وإبداعك، وكن ضيفًا في محافلنا القادمة

ندعو الأدباء والشعراء وسائر المبدعين إلى أن يُضيئوا حضورهم بيننا بتسجيل أسمائهم وتعمير الاستمارة التالية، ثم النقر على زر «أرسل» ليكون اسمكم ضمن قائمة الدعوات إلى تظاهراتنا الثقافية القادمة — حيث يلتقي الإبداعُ بنبض الحياة، وتُصاغ الكلمةُ في فضاءٍ يليق بكم وبأحلامكم.