92 تقديم النص الشعري: هذه القصيدة تتنفس من عمق الوجدان وتتحرك في فضاءٍ بين القول والصمت، بين ما يُقال وما يُخفى، حيث تتخذ الكلمات وظيفة رمزية تتجاوز ظاهرها إلى ما وراء المعنى، إلى تلك المساحة التي يسكنها الخفاء والتأمل والبوح المقموع. يفتتح الشاعر نصّه بصورةٍ مدهشة: «صمتٌ يلتف حول روحي كخريف بلا أوراق». إنّها استعارة لفراغٍ داخليٍّ ملوَّن بالحزن، حيث الخريف هنا ليس فصلًا بل حالة وجودية تُمثّل انطفاء الحيوية وذبول المعنى. هذا الصمت الأحمر الذي “يحمل وجعًا” هو حضور الغياب، واحتراق الداخل الذي لا يجد مفرًّا في النطق. في المقطع الثاني، يتحول الصمت إلى كيانٍ حيّ، إلى أشباحٍ تجوب السطور، تمارس فعل الكتابة الخفيّ وتترك أثرها في النصّ. هنا تتجلّى ثنائية الغياب والحضور؛ فالأشباح رمز لما تبقى من مشاعر لم تجد صياغتها، وما الشوق المزروع في القلب إلا نداءٌ للآخر الغائب، ذلك الذي يفصل بين الذات والعالم بجدارٍ من العمق الذي لا يُقال. ثم يرفع الشاعر الحجاب بين الأنا والآخر في قوله: «أنا هناك… وأنت هناك». هذه الوقفة المزدوجة تكشف عن اتحادٍ غامضٍ في المسافة، حيث يتحوّل الحرف إلى مرآةٍ تعكس ما لا يقال. بين “كل هزيمة وابتسامة” يُقيم الشاعر مسافة شعرية تُجسّد التجربة الإنسانية بكل تناقضاتها: الألم والفرح، الفقد والرجاء، الصمت والبوح. وفي الختام، تتسامى القصيدة إلى مقام الكشف: «وربما الحقيقة، ربما الصمت الذي يبوح أكثر مما نجرؤ نحن على النطق». هنا تبلغ اللغة أقصى درجات صفائها الفلسفي، فالكلمة تُصبح صمتًا، والصمتُ يُصبح أبلغ من القول. في هذا الفضاء النوراني، يتحقق اللقاء “حيث لا نهاية للضوء، ولا نهاية للكلمات”، أي في منطقةٍ يتلاشى فيها التقابل بين الوجود والعدم، وتغدو الكتابة خلاصًا من الوجع وولادةً للمعنى المطلق. إنها قصيدة تتأمل اللغة ذاتها، وتستكشف حدودها وقدرتها على احتواء ما لا يُحتوى. نصٌّ يُشبه تأملًا في مرآة الروح، حيث الكلمات ليست غاية، بل وسيلةٌ للعبور نحو الحقيقة الصامتة… [نيابوليس الثقافية] النص : وراء الكلمات،صمتٌ يلتف حول روحي كخريف بلا أوراق،يحمل وجعًا أحمر،ويخفي ما لم تجرؤ أنفاسي على قوله. وراء الكلمات،أشباحٌ بلا عنوان تجوب السطور،تزرع الشوق في حنايا قلبي،وتهمس: كل ما بينك وبين العالمأعمق من أي حديثٍ مسموع. وراء الكلمات،أنا هناك… وأنت هناك،كل هزيمة وابتسامةٍما بين حرفٍ وحرف،ينتظر أن يُقرأ بلا صخب. وراء الكلمات،ربما الحقيقة،ربما الصمت الذي يبوح أكثرمما نجرؤ نحن على النطق،ربما نحن، أخيرًا، بلا أقنعة،نلتقي حيث لا نهاية للضوء،ولا نهاية للكلمات.