218 كانت عودتها من المدرسة الثانوية ذلك اليوم مختلفة جدًا؛ تسير بخفّة وكأنها تمشي فوق الغيم. كان قلبها يرفرف سعادة وهي تمسك بورقة امتحان اللغة العربية وفيها علامة كاملة، وتتردّد كلمات المعلّمة في أذنيها: “ستصبحين أديبة عظيمة يا رغد.” رسمت في خيالها لحظة تلقّي أبيها الخبر ولمعان عينيه بخليط من التأثّر والفخر، ذلك الفخر الذي تحبّ رؤيته. لكن آمالها تحطّمت على صخرة الواقع الأليم؛ فلم يكن الطريق الترابيّ المؤدّي إلى منزلهم خاليًا كالمعتاد، بل كان يعجّ بالناس: جيران وأقارب، تتعالى همساتهم ونظرات الشفقة الصامتة تخترقها كنصل سكين بارد. تجاوزت الجميع وركضت إلى منزلهم، لتتوقّف فجأة وهي ترى أمّها جالسة في الفناء، عيناها محمرّة من البكاء تعيد سرد ما حصل لإحدى الجارات بصوت مرتجف يخرج بصعوبة: “سقط زوجي المسكين في موقع البناء من فوق السقالة، من الطابق الثاني… ظننّاه ميتًا.” سألت الجارة: “والظهر؟” أجابت الأم بحزن: “مكسور… قال الطبيب لن يمشي مرّة أخرى.” شعرت رغد أنّ العالم أصبح أكثر ظلمة في عينيها، وكأن الزمن توقّف، واختفت من حولها كل الأصوات ما عدا تلك الجملة الأخيرة: “لن يمشي مرة أخرى.” انزلقت ورقة الامتحان من يدها وتطايرت تحت الأقدام، ثم سقطت على الأرض ودَعسَها أحد الأطفال. لم تكن النتيجة المدرسية مهمّة بعد اليوم؛ لقد تغيّر كل شيء.انفضّ الحشد تاركين خلفهم هواءً مثقلاً برائحة الشفقة ووعدًا بالمساعدة، وأطبق الصمت ثقيلًا. جلست رغد بجانب والدها على السرير، كان وجهه شاحبًا عليه آثار الصدمة. مدّ يده بصعوبة وأمسك بيدها؛ لم يقل شيئًا، لكن الدموع انحدرت على خدّه. كانت تلك من أقسى اللحظات التي عاشتها رغد؛ لم يكن من السهل رؤية ذلك الرجل القوي ينهار هكذا أمامها ويذرف الدموع.لم تجد كلمات مواساة تقولها، فما الذي تُصبّر به رجلاً خسر قدميه؟ فاكتفت بمشاركته ألمه في صمت.وفجأة دُقّ الجرس. هرولت الأم نحو الباب تظنّ أنّ إحدى الجارات عادت، لكنها وجدت نفسها أمام رجل في الخمسينات من عمره، يتسلّل بعض الشيب إلى شعره الأسود ولحيته، يرتدي بدلة أنيقة مكوية بعناية، وعطرًا رجاليًا فاخرًا يفوح منه. كانت تعرفه جيدًا… أبو ناصر، صديق قديم لزوجها.لم تبتسم عند رؤيته، بل ازداد تجهمها واستقبلته ببرود. دخل غرفة الأب وأردف بنبرة مفتعلة الرقة وعيناه تتفحصان رغد: “يا لسوء حظّك يا صديقي… ساعة البلاء لها وقتها.” أجاب الأب محاولًا التماسك: “قضاء وقدر… ماذا نفعل؟ تلك هي الحياة.” قال الرجل: “نعم، الحياة قاسية جدًا… ولكن إن لم تعمل، فمن سيسدّد لي ديني؟” قاطعته الأم بحدّة: “أنا سأعمل… وسأسدّده.” ألقى عليها نظرة استهزاء: “وماذا ستعملين يا سيّدة؟ دينكم كبير… لم يستطع زوجك طوال سنوات تسديده، فهل ستفعلين أنتِ؟” التزم الجميع الصمت، وشعر الأب بالعجز. غضبت رغد من ذلك الرجل؛ فلو كان هناك شكل للشيطان فسيكون هو لا محالة. كيف له أن يكون بلا قلب ويطالب بدَين من أناس في هذه الحالة؟ لكنها كتمت غيظها كي لا تزعج والدها.ثم أردف الرجل ثانية وهو يرمقها بنظرات غريبة: “في الحقيقة، هناك حل… بل سأزيد عليه هدية لا تُرفض.” سأل الأب والأم بصوت واحد: “ما هو؟” قال بنبرة باردة: “ابنتكم… سأزوجها لابني ناصر. وفي المقابل سأمزّق سندات الدين أمامكم، وأتكفّل بعلاج صديقي.” اتّسعت عينا رغد صدمة. حاولت الاعتراض والصراخ لكن صوتها لم يخرج. نظرت إلى أمّها المنحنية الرأس ودموع مريرة تنساب على خديها، أما والدها فكان ينظر إلى الفراغ نظرة يختلط فيها الخزي بالعجز.لم تكن الصدمة في العرض بقدر ما كانت في صمتهم.في الأسابيع التالية، تحوّل المنزل إلى سجن من القهر والدموع. قبلت رغد في النهاية استسلامًا لقسوة القدر وامتثالًا للواجب. كان الزفاف احتفالًا باهتًا تجلس فيه العروس كدمية تتحرّك بأوامر الآخرين، إلى جانب زوج يكبرها بخمس سنوات. كان ناصر شابًا مدلّلًا ورث من والده ثراءه وغروره. دخلت رغد تلك الليلة بيت الزوجية، وسُرِقت أحلامها واحدة تلو الأخرى: حلم الجامعة، والأدب… فعوض أن تمسح الغبار عن كتبها، أصبحت تزيله عن التحف الباهظة في المنزل الكبير البارد الذي يشبه متحفًا، وهي ليست إلا تمثالًا فيه.وعوض اجتماعات المذاكرة وندوات الجامعة، كانت تجلس في صالونات النساء وتسمع لثرثرتهن التي لا تتجاوز موضوع الرجال. وفي كل صباح، تراقب من النافذة التلاميذ وهم ذاهبون إلى مدارسهم، وتتمنى لو أن كل ذلك لم يحدث. أنجبت رغد طفلًا وهي في سن التاسعة عشرة.أنقذها من الجنون والوحدة؛ أحبّته حبًا مرضيًا مشوبًا بالحسرة. كان نقطة الضوء الوحيدة في عتمتها.وهكذا توالت الأيام… تستيقظ، تخدم، وترسم شبح ابتسامة زائفة على وجهها، تطعم ابنها وتحضنه لتتأكّد أنّ جزءًا من إنسانيتها لا يزال موجودًا، ثم تطلّ كل يوم من النافذة على الحياة التي كانت من الممكن أن تكون لها… كطائر أسير محبوس في قفص ذهبي، يراقب أسراب الطيور المحلّقة بحرّية في الخارج. وذات مساء، بينما كان طفلها يلعب بقلم حبر على الأرض أحدث خطوطًا عشوائية على الورقة البيضاء. عندما رأتها رغد، تذكّرت حبر امتحانها ذلك اليوم وكلمات أستاذتها المشجّعة. أخذت من الدرج مزيدًا من الورق وجلست بجانب صغيرها، ثم كتبت أوّل كلمة.كانت قد نسيت كيف تكتب القصص، ولكن شيئًا فشيئًا بدأت الكلمات تهرب منها إلى الورق.وقرّرت في تلك الليلة أن تكتب قصّتها بيدها.قرّرت أن تكون كاتبة عظيمة، وتحقّق نبوءة الأستاذة… رغمًا عن أنف القدر. الكاتبة آية مصدّق