374 في حيٍّ شعبي صغير في إحدى ضواحي مدينة القمّاصة، وكان اسم الضاحية (التمرية) لأنها كانت مشهورة بالنخيل الذي يثمر بأجود أنواع التمور النادرة، عاش نادر مع أمه (جميلة) منذ أن فقد والده وهو طفل. كان والده يعمل نجّارًا، ومرض بالمرض الخبيث جراء كثرة التدخين عبر سنين طويلة.كانت أم نادر بالنسبة له كل الدنيا، هي من سهرت على تربيته، وضحّت بوقتها وصحتها من أجله. لكن حادثًا قديمًا غيّر حياتها؛ فقد أصيبت في ساقها حين كانت تعمل في جمع التمور، إذ اخترقت قدمها إحدى شوكات سعف النخيل، وأدت إلى تورمها، وبسبب عدم أخذها للدواء المناسب تسبب لها هذا الحادث بتلف أعصاب القدم، وأصبحت تتحرك أحيانًا على كرسي متحرك وأحيانًا بعكاز، وهي تعرج. كان نادر يحبها حبًا لا يوصف، لكن قلبه الصغير لم يكن يتحمل نظرات الناس.كلما جاءت لتنتظره أمام المدرسة أو أخذته إلى السوق، سمع همسات أصدقائه وضحكاتهم المكتومة:– انظر لأم نادر كيف تمشي!– لو كنت مكانك لن أدعها تأتي. كان يشعر بحرقة وخجل لا يدري كيف يتصرف معها.صار يتجنب أن يخرج معها أمام أصدقائه، ويعتذر كل مرة قائلاً:– لا يا أمي، لا حاجة لقدومك معي، أقدر وحدي. الأم، بقلبها الحنون، كانت تفهم صمته أكثر من كلامه.تدرك ما يعانيه لكنها لا تُظهر شيئًا، وتكتفي بابتسامة حزينة تدعو الله أن يهديه ويحرسه. مرّت الأيام، وفي إحدى المرات تعرّض أحد أصدقاء نادر لحادث، وكُسرت ساقه.جاء إلى المدرسة بعكاز، وما إن دخل الصف حتى تعالت ضحكات التلاميذ وتقليدهم لطريقته في المشي. نادر، الذي كان جالسًا بينهم، شعر وكأن سكينًا غُرزت في قلبه.لم يحتمل المشهد.فجأة نهض غاضبًا وصاح في وجوههم:– عيب! عيب عليكم! هو صديقنا وتعرض لحادث، لا تتنمروا عليه!هذا العمل حرام وعيب، كنتم تسخرون من أمي والآن من صديقي وصديقكم، وأنا كنت أسكت على مضض، لكن اليوم لن أسكت! ساد الصمت، وانحنى صديقه بعينيه إلى الأرض خجلًا.أمّا نادر فقد شعر لأول مرة بشجاعة لم يعرفها من قبل. عاد إلى البيت ذلك اليوم، ورمى حقيبته جانبًا، ثم اندفع نحو أمه وعانقها بقوة وهو يبكي:– سامحيني يا أمي، سامحيني لأني خجلت منك أمام الناس. والله إنتِ تاج على راسي، وإنتِ أحلى وأغلى من الدنيا كلها. ابتسمت الأم، ومسحت دموعه بيدها المرتجفة، وقالت:– كنت أعرف يا نادر إنك يومًا سوف تفهم. أنا عمري ما زعلت منك، كنت أدعي الله أن يهديك وتراني بعين قلبك لا بعين الناس. في اليوم التالي، قرر نادر أن يمسك بيدها أمام الجميع.خرج معها إلى السوق، كان يمشي بجانبها مرفوع الرأس، وعندما نظر إليه بعض الصبية بدهشة، بادر قائلاً:– هذه أمي، وأنا فخور بها… هذه أم نادر العظيمة. شعر لحظتها أنه لم يحرر نفسه فقط، بل حررها هي أيضًا من صمت طويل.أما أصدقاؤه، فقد خجلوا من أنفسهم، وتعلموا درسًا لن ينسوه: أن الإعاقة ليست في الجسد، بل في القلب الذي لا يعرف الحب. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد نادر يخجل، بل صار كلما نظر إلى أمه بعكازها أو كرسيها، يرى فيها القوة والصبر والجمال الحقيقي. كبر نادر وكبرت أمه، وأصبحت لا تمشي أبدًا.عمل في أحد المصانع بعد تخرجه، وتزوج من فتاة أحبها، واشترط عليها أن تكون خادمة لأمه أولًا، ويكون هو بالمقابل زوجًا وأخًا وأبًا وصديقًا لها.وافقت الفتاة. وبعد العرس، ترك مسؤولية أمه لزوجته.أصبح حين يعود يمر على أمه مرور الكرام، للحظات، ويذهب لغرفته مباشرة. وهكذا، بعد أكثر من شهر، بدأت تظهر على زوجته علامات السخط وعدم الرضا من خدمة أمه، وبدأ يلاحظ هذا على أمه بسبب إهمال زوجته لها. وأحسّ أن هناك مشاكل في عمله، وأدرك بفطنته أن سبب هذه المشاكل هو تقصيره مع أمه وتركها لزوجته فقط. ولكي يمنح زوجته درسًا في الوفاء بالعهود، أصبح يهمل زوجته ويراعي أمه كما كان قبل زواجه.يجلب لأمه الدواء ويعطيه لها بيديه، وحين تمرض زوجته يهملها ويتركها ولا يهتم. وكانت الزوجة تتأفف وتشتكي من إهماله لها.فقال لها:– أتذكرين شرطي عليك قبل زواجنا؟قالت: أي شرط؟قال: ألم أشترط عليك أن تكوني خادمة لأمي وأكون لك زوجًا صالحًا في كل شيء؟قالت: نعم، هذا ما حدث.قال: والآن من نكث العهد؟ ترددت وارتبكت الزوجة وفهمت الدرس.قالت: سامحني يا نادر، الآن فهمت سبب إهمالك وعدم اهتمامك بي، أعدك أني سألتزم بشرط زواجنا الأول.قال: إن شاء الله. قامت الزوجة بالاعتناء بأم زوجها، وعاد نادر يهتم بزوجته أكثر من الأول. بعد سنة توفيت أمه، فحزن حزنًا شديدًا.أمسك عكازها وكرسيها وبدأ يقبّلهما كثيرًا، وتمنى أن يعود طفلًا مرة أخرى ليعوّض أمه. أنجبت زوجته طفلة جميلة ومنحها اسم أمه، لكي يبقى ذكرها في الدار ما عاشوا به.وحقًا، أصبحت جميلة اسمًا على مسمّى.