905 مقتطف من المشهد الثامن من روايتي ذكريات لينا: – آه!! تصيح لينا، تسدّ أذنيها، ترتعش ذعرًا. كانت تظن أنه طلق ناري. لقد أطلق رجال الأمن الغاز المسيل للدموع لتفريق الجموع بعد أن تكاثف عددهم عند الباب وأصبح من الصعب التحكم في الوضع الذي طغى عليه العنف والفوضى. جنون الآن… ذعر… اختناق… صياح… أصوات تكسير وتهشيم للنوافذ البلورية. لقد تحوّل الوضع الآن إلى جحيم. الكل يركض في شتى الاتجاهات. تتجمّد لينا من الخوف في مكانها. بدأت رائحة الغاز المسيل للدموع بالتسلّل إلى أنفها. تدمع عيناها. تشعر برغبة في السعال. تسدّ فمها وأنفها بيديها. تسعل بشدّة. تركض الآن عائدة أدراجها في ممر ضيّق. تتوقف قليلا، تمسك بالحائط، تحاول التقاط أنفاسها. تتساقط قطرات العرق من جبينها. ترتعش أطرافها. تبلع ريقها. تتنفّس بقوة، يؤلمها بطنها. ثم تقرّر مواصلة سيرها، تهرول نحو الدرج المرمري الكبير المؤدي إلى إدارة الكلية. تنزل في خفّة وسرعة الآن، ثم تتوقّف في الأسفل. لم يتبقّ لديها غير أمرين اثنين: أن تذهب يسارا إلى الحديقة الداخلية لتختبئ هناك بما أنه ليس هناك مخرج. أو أن تمضي بالاتجاه اليمين أين يوجد باب خروج الإداريين. تقرّر الذهاب نحوه. لقد طوّق رجال الأمن الباب ولا يُسمح إلا للأساتذة والموظفين بالخروج. أما الطلبة المتجمهرون هناك منعوا من الخروج وأُمروا بالعودة أدراجهم نحو البوابة المخصص لهم، أين تنتظرهم العصي والغاز المسيل للدموع. يحتجّ بعضهم، يتوسّل آخرون في يأس: – خلّيونا نخرجوا آمان! – قتلك أرجع من غادي!! وخّر!! وخّر!!! يصرخ أحد الأعوان. – تي ابعد، خلّي الأستاذ يتعدّى!! تي ابعد!! يلوّح آخر بعصاه في الهواء مهدّدًا. تبكي فتيات من الخوف واليأس. تقول إحداهن: -تي علاه هكا؟ مناش عباد أحنا؟ يتجاهلها العون: – تفضّل مسيو، من هنا… تي خلّي الراجل يتعدّى، ما تسمعش!! تي ابعد!! يضرب طالبًا على ذراعه بالعصا. –آه… يصرخ، يمسك بها، يتلوّى من الألم. تتّسع عينا لينا من الصدمة. يتفاجأ أيضًا الأستاذ وينخطف لونه، يقول: – ميسالش، خلّيوهم يخرجوا… – لا، أوامر، أستاذ، هيا تفضّل… مشيرًا إليه بيده أن يغادر. يخرج الأستاذ وعلامات الاستياء والأسف بادية على وجهه. يعود الصراخ والهرج والتدافع بعد ذلك. بدا الخروج من ذلك الباب مستحيلا. تشرد لينا وتلتفت نحو باب الحديقة: -زعما؟ تقول يائسة. في تلك اللحظة، تمسك بذراعها قبضة أحد رجال الأمن القوية. –آه!! تصرخ. تلمح عينيه من تحت الخوذة الكبيرة التي كان يرتديها. كأنها تعرفه… لكن من هول المفاجأة لم تتعرف عليه حينها. يحدّق فيها بعينيه الضيّقة ثم يزمجر بصوت حاد: – إيجا لهنا إنتِ! دور من غادي، ما تسمعش!؟ قلنا فماش خروج من هنا!! تتسمّر لينا في مكانها مذعورة، تحدّق في وجهه في صمت وذهول. تتكاثف دقّات قلبها. ثوانٍ… وتشعر بقبضة قوية تعصر معصم يدها الرقيقة. –آه!! تصيح. يجرّها بقوة نحو الباب. يتوقف رجل الأمن قليلاً، ثم يدفع بها من خلال فجوة بين صفوف الأمنيين إلى الخارج. تتعثر لينا في الدّرج الرخامي الخارجي من قوة الدفع، تكاد تسقط أرضًا. تلهث، تمسك بركبتيها وبطنها. تلتفت وراءها… جمع كبير من فرقة مقاومة الشغب يسدّ الباب. تبلع ريقها. لقد ساعدها الأمني على الخروج بالرّغم من كل شيء. لقد ساعدها وأنقذها من هذا الجحيم. تراقب لينا ما يجري من حولها في ذهول. تركض حشود من الطلبة في جميع الاتجاهات. تطوّق مبنى الكلية سيّارات الأمن وأمنيون على دراجات نارية، وكلاب بوليسية تلهث. يتعالى الصراخ في الداخل… يُدفع ببعض الطلبة في حافلات، كانت قد اصطفت أمام باب الطلبة. تُسمع الهتافات، تتعالى وتصير أقوى الآن: – جامعتنا حرة حرة، والتجمّع على برّا!!! تشعر لينا بقشعريرة في بدنها. تقرّر النزول أسفل الشارع. لكن صياح فتاة وراءها زادها ذعرًا. فقد لحق بها أحد الأمنيين على دراجة نارية كبيرة وسريعة، يقول بصوت عالٍ: – شنوا كنتو تقولو؟!! ها؟!! جامعتنا حرّة حرّة، وشكون على برّا؟!! يضحك في استهزاء. تتجاهله الفتاة وتواصل ركضها خلف لينا التي أصبحت في حالة يُرثى لها من الذعر. وفي خضم هذه الأحذاث ترتطم لينا برجل مسن كان يحمل “قفة” مليئة بالبرتقال. تقع من يده. – آه… يا بنيّتي… بالشويّة!! يصرخ المسن. –سا… سامحني… تتمتم لينا، ترتعش يداها وهي تلتقط حبّات البرتقال التي تدحرجت على الرصيف. – سامحني… تقول مرّة أخرى، تبلع ريقها. فجأة يتوقف الأمني صاحب الدراجة بجانبها، ينظر إليها بعينين ضاحكتين: – وإنت شكنت تقول؟ آه؟ كيفهم زادا؟ قلّي، شكون الي على برّا؟ ترفع لينا عينيها تحدّق فيه وحبّة برتقال بين يديها المرتعشتين: – ما… ما… قلت شي… ما قلت شي أنا… … يتبع… ان شاء الله بطباعة رواية “ذكريات لينا” في كتاب ورقي. لقراءة كتاباتي والأجزاء السابقة للرواية مع تحيات الروائية حنان الشلي جميع الحقوق محفوظة للكاتبة حنان الشلي