58 في دورتها السادسة والثلاثين، لا تكتفي أيام قرطاج السينمائية بأن تكون تظاهرة للعرض والاحتفاء بالفن السابع، بل تجدد انحيازها العميق لخيار اللامركزية الثقافية، باعتباره موقفًا فكريا وخيارا إنسانيا قبل أن يكون توجّها تنظيمياً. فمنذ سنة 2010، ومع إطلاق قسم «أيام قرطاج السينمائية في الجهات»، لم تعد السينما حبيسة القاعات الكبرى، بل صارت ضيفا منتظرا في المدن الصغيرة والفضاءات المنسية، حاملة معها دهشة الصورة وفتنة الحلم. لم يكن هذا المسار مفروشا باليسر منذ بداياته، إذ واجه رهانات لوجستية وتنظيمية وثقافية، غير أنّ الإيمان بدور السينما في بناء الوعي، وصبر القائمين على المشروع، وتراكم التجربة، كلها عوامل أسهمت في تحويل الحلم إلى ممارسة راسخة. ممارسة لم تكتفِ بنقل العروض إلى الجهات، بل ساهمت في إيقاظ شغف جديد بالفن السابع، وفي بعث مهرجانات سينمائية محلية، وفي غرس تقاليد فرجة جماعية تحمل في طياتها معنى اللقاء والحوار والانفتاح. هكذا وُلد جمهور استثنائي، جمهور يزداد عددا وحضورا من دورة إلى أخرى، جمهور يرى في السينما مرآة لحياته وأسئلته وهواجسه. ويحمل برنامج «أيام قرطاج السينمائية في الجهات» رؤية تتجاوز البعد الترفيهي، لتجعل من السينما وسيلة للتفكير، وأداة للتغيير، ومساحة حرة لطرح القضايا وبناء الوعي المشترك. هي سينما تصنع المتعة، لكنها أيضا توقظ الأسئلة، وتمنح الهامش حقه في الصورة والكلمة والضوء. ومن هذا المنطلق، يواصل مهرجان أيام قرطاج السينمائية، الأعرق عربيا وإفريقيا، رحلته عبر الجغرافيا التونسية، متنقّلا بين المدن والقرى، حاملا جديد الإنتاجات السينمائية، ومصحوبا بنجوم وضيوف وصنّاع أفلام يؤمنون بقيمة اللقاء المباشر مع جمهور الجهات، في عروض تتجاوز حدود الشاشة لتصير لحظة ثقافية حيّة ومشتركة. وفي الدورة السادسة والثلاثين، تفتح الشاشة الكبيرة ذراعيها بكل من فرنانة من ولاية جندوبة، وغنوش من ولاية قابس، وسيدي بوعلي من ولاية سوسة، وسليمان من ولاية نابل، وقفصة، في موعد يؤكد مرة أخرى أن السينما ليست امتيازا، بل حقّا ثقافيا، وأن الضوء حين يوزّع بعدل، يصنع حياة أعمق وأجمل… الصحفية عبير الغزواني