542 ماذا أنجزت الفلسفة اليوم؟ ليس هذا سؤالًا يبحث عن سجلات نجاحٍ تقاسُ بالأرقام، بل عن وزنٍ منجزٍ ينقش في وعيناالجماعي ويعيد ترتيب حدود الممكن والمسموح والضروري. إن الإنجاز الفلسفي المعاصر لا يقاس بما يُنتَج من أدواتٍمادية، بل بما يُحرّر من أدوات التفكير نفسها: هو تحرير مفاهيمي، نقدي، وأخلاقي يجعل من الإنسان كائنًا قادرًا علىمساءلة نفسه وعصره بصفة منهجية ومطلقة لا تقبل التهاون. أولا، إنجازٍ فلسفي هو إبقاء السؤال حيًّا. في زمن الاستعجال والتخصيص التقني، تشكّل الفلسفة كمضادٍ للاستعجال: تذكّر بأن المعرفة لا تنتهي عند حدود الحساب والإحصاء، وأنّ المطالبة بالمعنى، بالغاية، وبالعدل تُعيد للعالم بعده الإنساني. هذاالاحتفاظ بوظيفة السؤال ليس مقاومةً للمعرفة العلمية بل شرطًا لها؛ فالتأمل النقدي يحدد مرامي العلم ويعرض افتراضاتهلامتحان العقل العام. ثانيًا، أنتجت الفلسفة أدوات نقدية لصياغة الذات والعالم: مفاهيم مثل الحرية، المسؤولية، العدالة، الكرامة، والالتزام صارت اليوم محكمةً ومشدودةً لسياقات تقنية وبيئية واقتصادية لم تكن قائمة من قبل. ما يبدو إنجازًا عمليًا هنا هو قدرة الفلسفة على تحويل هذه المفاهيم إلى آليات تفسير وتوجيه — أخلاقية وسياسية — تُستدعى عند مواجهة أخلاقيات الجينوم، خوارزميات القرار، أو أزمة المناخ. الفلسفة لم تُخترع قواعد جديدة فحسب؛ بل أعادت صياغة شروط السؤال عن الخير والضرر في العالم المعاصر. ثالثًا، أعادت الفلسفة تشكيل فهمنا للذات والانا: لقد هُدمَت البنية الوحدوية للذات الكلاسيكية وحُلَّ محلها مفاهيم عن الوجودالمتعدّد، اللعب البنيوي للمعنى، والذات كمجال للعلاقات. هذا التحول الأنطولوجي لم يظل لفظًا نظريًا؛ بل صار ملموسًا في أخلاقيات الرعاية، فهم التعددية الثقافية، والمطالبة بالاعتراف بالآخر. الفلسفة اليوم تجعل من الذات مفهوماً أخلاقيًا وسياسيًا، ليس مجرد مرآة داخلية بل فضاء مسؤولية وتبادل.رابعًا، أسهمت الفلسفة في بلورة أفق عام للنقاش العام: من خلال مفاهيمها النقدية استطاعت أن تزود الخطاب العامَ بالآليات الضرورية لتمييز الحجة من التهويم، للتمييز بين السلطة والمعرفة، وللتفتيش عن الشرعية. إنّ مفهومَي العقل العامّ وعلوية النقد ليسا ترفًا نظريًا بل شروطٌ لوجود مجتمعٍ سياسياً واعٍ، قادرٍ على محاسبة مؤسساته ومساءلة أفعالها. خامسًا، لا يمكن إغفال الوجه المنهجي: الفلسفة أعادت إحياء فضائل التحليل الدقيق، البيان اللغوي، التفكيك البنيوي،والتأويل العميق. في عصر تُسوَّق فيه السرعة كقيمة، تُعلّم الفلسفة أن البطء التحليلي فضيلة: قراءة نقدية للخطاب، تمييزللالتباسات المفاهيمية، وصياغةٍ دقيقةٍ للأسئلة قبل المطالبة بالأجوبة. هذه المهارات هي ما يجعل التفكير السياسي والعلميأكثر مصداقية ومقاومًا للاختزالات. ورغم ذلك، لا ينبغي أن نغفل حدودها: الفلسفة لم تصل إلى حلولٍ نهائية لمشكلات العدالة أو اللامساواة؛ بل على العكس،كثيرًا ما كانت أرضيةً لجدلٍ لا ينتهي، وأحيانًا متهمة بالتواطؤ أو الانعزالية عن الفعل السياسي. إنّ إنجازها الحقيقي ليسفي استبدال العمل بالمساءلة، بل في جعل الفعل نفسه عرضةً للمساءلة، وهو إنجاز قد يُبصر بطيئًا لكنه جوهري. نصل عند لحظة بعينها ونقول: ما أنجزته الفلسفة اليوم هو إنتاجُ آلياتِ الوعي والاعتبار؛ هي لم تقدم لنا عالَمًا جديدًا جاهزًا، بل أعطتنا رُؤيةً عن كيفية صنع العالم بعقلٍ مُنقّحٍ وضميرٍ مُستعدّ للمسؤولية. إنّ إنجاز الفلسفة في زمننا لا يكمن في إغلاق السؤال، بل في إبقائه مفتوحًا، مفتاحًا أمام إمكاناتٍ أخلاقية وسياسية وتاريخية أخرى. وفي هذا الانفتاح تكمن عظمتها وربما خلاصنا وعليه فأننا مطالبين لزاما بطرح سؤال حق الا وهو :هل أصبح وجود الإنسان اليوم قائما على حافة العدم؟