في زمنٍ يزداد فيه الصمت ثقلاً، وتُقاس فيه الأرواح بموازين السياسة الباردة، تبقى غزة وصمة عارعلى جبين الإنسانية، وجرحًا لا يندمل مهما حاول العالم إدارة ظهره.
في الركن الشرقي من المتوسط، حيث تتشابك الأزقة الضيقة مع رائحة البحر، تقف غزة شاهدة على مأساة يتوارثها جيل عن جيل.
ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل مرآة لضمير العالم المثقوب. هناك، يولد الأطفال وسط أصوات الصواريخ، يكبرون قبل أوانهم، يتعلمون الهروب أسرع من المشي، ويحفظون أسماء الشهداء أكثر مما يحفظون دروس المدرسة.
غزة اليوم ليست خبرًا عابرًا في نشرات المساء، بل وجع يومي محفور في ذاكرة العالم.
صور الدماء والركام، أقدام الأطفال الصغيرة وهي تلاحق كسرة خبز، أمهات يحملن أبناءهن بين الأنقاض، رجال يفتشون بأيديهم العارية عن بقايا حياة… كل ذلك ليس مشهدًا سينمائيًا، بل حقيقة يعيشها أكثر من مليوني إنسان محاصر.
المأساة هناك مركّبة؛ فالحصار يخنق الهواء، ويغلق البحر، والسماء مفتوحة فقط لطيور الموت.
البيوت التي هُدمت مرارًا تعود لتُبنى بأمل هشّ، لتنهار من جديد تحت أول قذيفة.
المستشفيات مكتظة بالجرحى، تنقصها الأدوية والأجهزة، بينما الأطفال يتعلمون فنون الصبر والنجاة بدلًا من اللعب.
لكن وسط هذا الخراب، تبقى غزة مدهشة في قدرتها على الحياة.
في الأزقة المهدّمة، تسمع صوت طفل يضحك رغم الدمار. على جدران البيوت المتصدعة، يكتب شاب قصيدة صغيرة بالطبشور: “لن نموت… سنحيا ليُزهر الحلم”.
نساء يخبزن خبز “الطابون” تحت القصف، وكأنهن يقلن للعالم: نحن هنا، لن نغيب.
الثقافة في غزة ليست ترفًا، بل مقاومة.
الشعراء يكتبون بدم القلب، الفنانون يرسمون بريشة من رماد البيوت المحترقة، والأطفال يرسمون شمسًا صفراء على ورقة مجعدة وكأنها وعد مؤجل بالحرية.
هناك، تتحول الكلمة إلى خندق، والأغنية إلى دواء، والذاكرة إلى جدار يحمي الهوية من التلاشي.
إن معاناة غزة لا تُختصر في لغة الأرقام؛ فالإحصاءات الباردة لا تستطيع أن تروي كيف يُقتل الحلم كل يوم، وكيف يُسرق المستقبل من بين أيدي الصغار.
كل طفل شهيد ليس رقمًا، بل حكاية انطفأت.
كل بيت مهدوم ليس جدارًا سقط، بل تاريخ عائلة.
المأساة ليست فقط في القصف، بل في صمت العالم.
في ازدواجية المعايير التي تجعل الدم الفلسطيني أقل قيمة في موازين السياسة الدولية.
غزة تصرخ منذ عقود، لكن الصوت يرتد إليها، بينما العيون تكتفي بالمشاهدة.
أي ضمير هذا الذي يرى الأمهات يحملن أبناءهن جثثًا صغيرة ملفوفة بالأكفان البيضاء ولا يرتجف؟
ورغم كل ذلك، لم تستسلم غزة.
على العكس، علّمت العالم معنى الصمود.
علّمت أن الإرادة يمكن أن تُزرع حتى في أرض محروقة، وأن الحلم يمكن أن يعيش ولو بلا ماء ولا كهرباء.
غزة اليوم ليست فقط جرحًا فلسطينيًا، بل رمزًا عالميًا للثبات.
هي قضية إنسانية بامتياز، لأن ما يحدث هناك ليس حربًا على أرض، بل حرب على معنى الحياة ذاتها.
إن الحديث عن غزة ليس ترفًا صحفيًا، ولا مقالًا عابرًا يُنسى مع انطفاء الشاشة.
إنه واجب أخلاقي، وامتحان حقيقي لإنسانيتنا.
أن تكتب عن غزة يعني أن تكتب عن كل طفل فقد حقه في اللعب، عن كل أم فقدت فلذة كبدها، عن كل مدينة تُقتل مرتين: مرة بالصواريخ، ومرة بالصمت.
من يتجاهل غزة يخسر إنسانيته قبل أن يخسرها أهلها.
ومن يصمت على مأساتها يضع نفسه في صف الجلاد، حتى وإن لم يحمل سلاحًا.
لأن الصمت أمام الجريمة هو جريمة مضاعفة.
ومع ذلك، تبقى غزة مدرسة الحياة والموت معًا.
تعلّمنا أن الحرية لا تُوهب بل تُنتزع، وأن الكرامة أثمن من البقاء، وأن الحلم قادر على النجاة من تحت الركام.
هي تقول للعالم كل يوم: لسنا ضحايا فقط… نحن شهود على زمن لن يُمحى، ورمز لصمود لن يُكسر.
غزة ليست مجرد اسم على الخريطة، بل وصية للأجيال، وذاكرة محفورة بالدم والدمع.
ستبقى ما بقي البحر والسماء، وما بقي طفل يرفع راية صغيرة بين الدمار، وما بقيت أمٌ تهدهد طفلها بكلمة: “اصبر يا بني… الفجر قادم.”
172