تقديم النص:
النص ينطلق من نبرة اعترافية حميمية تحمل وزناً وجوديّاً: المتكلّم يبدو مشتّتا بين حالتين — ما كان عليه سابقًا وما صار إليه بعد الفقد أو النكسة — ويعلن عن انهيار صورة الذات السابقة. عبارة الافتتاح «لستُ أنا الذي كنتُ أعرفُنِي» تضع القارئ مباشرة في مواجهة تشظّي الهوية، ثم تتوالى صور السقوط والرماد والخبر لتؤكّد أن التجربة ليست فقط مادية بل إفلاسٌ وجوديّ يغيّر مركز الثقل الداخلي للمتكلم.
الصور الحسية هنا تخدم دلالة رمزية قوية: السقوط مع سقف الدار دفعةً واحدة، عدم العثور بعد السقوط، الرماد الذي «أخبرني عني»، كلها تمنح الفقد طابعًا نهائيًا يوازي الموت ولكنه ربما أشمل — موتٌ للذات الاجتماعية والاعتقادات السابقة. اللغة تختزل المشهد إلى لقطات موجزة لكنها مشبعة بالمعنى، فتجعل من المادي رمزا لحالة داخلية طويلة المدى.
ثمة بعد مواجَهة للآخر في النص: المتكلّم يسأل جماعته إن كانوا تسلّموه، إن كانوا ردّوه بما يوجب عليهم من نصرة وغِياث. السؤال ليس فقط عن الجسد المادي وإنما عن الاعتراف الاجتماعي والضمير الجمعي؛ هل هناك من يتذكّر من مات قبلاً؟ هل هناك من يحمل الرسائل التي تبعثرت «خلف الحدود»؟ هذه المقاربة تحوّل التجربة الفردية إلى امتحان للضمير العام.
فكرة «الظل» تتكرّر وتتوسّع لتأخذ بعدًا رمزيًا مركزيًا: المتكلّم يسجل تحوّله إلى ظلّ لـ«أنا» قديم، وظلٌّ مُجاهد بعد موته. الظل هنا لا يفقد القيمة، بل يظل شاهداً ومرابطًا؛ هو شهادة على استمرار الوجود الأخلاقي والمعنوي رغم انطفاء الحضور الفيزيائي. هذا التصوير يمنح الموت وظيفة أخرى: ليس انطفاءً تامًا بل استمراراً بذورياً في ذاكرة الجماعة أو كضمير يوقظ.
الأسلوب يمزج بين السخرية المريرة والاعتداد الحزين؛ في مقاطع يرفض المتكلّم أن يكون عبئًا «بمظروف مؤونةٍ خفيّ»، ويقاطع خطابات التنديد الرسمية («أسفاه على أبهة الطاولات المستديرة») كما لو أنه يستهجن مجاملة الحزن الشكلية التي لا تصحبها أفعال حقيقية. هذا الموقف النقدي يضع النص في خانة الشعر السياسي/الاجتماعي الذي يطالب بالمسؤولية الفعلية، لا بالتصريحات الباردة.
من ناحية البناء، يعتمد النص على تتابعات استنكارية واستفهامية تدفع القارئ إلى مواجهة الضمير: تَسَلَّمتموني؟ أين أنتم من ظلي؟ هذا النمط يخلق إيقاعًا متوترًا يوازي اضطراب المتكلّم، وفي الوقت نفسه يجعل النص خطابًا موجهاً ومطالبًا، لا مجرد تأمل خاص. نهاية النص، حين يعلن المتكلّم أنه “لا يسألكم عن بيتٍ ولا زادٍ”، تؤكد رفضه للشفقة الشكلية، وتعيد تأكيد كرامته حتى بعد الموت.
ختامًا، يقدم النّص رؤية مركّبة عن الموت والوجود والذاكرة: الموت ليس مجرد فقدان مادي بل انقضاء لصورة الإنسان القديمة، والظلّ يمكن أن يتحول إلى مُجاهد أخلاقي يستمرّ في مرافعة الضمير الجماعي. النص يوجّه نقدًا لصيغ الحزن البحثية ويطالب بمساءلة عملية عن من يبقى مسؤولاً عن حقوق الذاكرة والكرامة بعد الفقد. [نيابوليس الثقافية]
النص:
لستُ أنا الذي كنتُ أعرفُنِي…
لمْ أعد مثلكمْ مِن صلصالٍ كالفَخَّار،
سَقطتُ مع سقف داري دفعةً واحدة،
لمْ يعثُر علَيّ أحدٌ بعدها…
لم أحلم يوماً أن أحظى بقبرٍ،
أو بموتٍ رحِيم،
كنتُ أعرفُ خاتمتِي،
كمَا تعرفون – اللحظة – كيف كان الخِتام،
ولأن الرّمَاد أخبرني عَنِّي
ذاتَ حلم في المَنام،
صِرتُ خبراً، وكان
لا أكثر…
فقط ما بعد أشَلائِي،
أحسَستُ بهمْ يمُرُّون على رمِيمي،
قبلَ أنْ تُبعثِرني الذّاريات
إلى حيث لا أعلمُ الآن،
لعَلِّي حينَها تبعثَرتُ رسَائلَ
خلفَ الحدود…
مَن يعلم غيركمْ؟
غيركم؟
هل تسَلَّمْتُمُونِي.. ورَددتُمُونِي
بِمَا وِجبَ عليكم من نُصْرَة وغِياث؟!
إذا كان ظلِّي استَشْعَر مَحوِي؛
فوقفَ شامِخاً لِيُبَلِّغَ عني
إلى مَنْ بقِيَ في عروقهِ الدم،
فأين أنتم من الظِّل ظلِّي؟
ها أنا الآن كما تفهمون…
لستُ سِوى ظِلٌّ لـــ “أنا” العتيق، كعتقِ المدينة،
في الخطوطِ الأماميةِ للدِّفاع عنكمْ،
فطُوبَى لكمْ التخفيف عنكم
من عِبئِي الثقيل…!
لمْ أكلفكمْ عنَاء حملِي
بمظروفِ مؤُونةٍ خفِيّ،
أو كفنٍ للخلاص مِنِّي عَنْ إذْنٍ
بعد قِمَّة،
أو لَرُبما كيس عدسٍ أكلَتْهُ السُّوس
في الشاحنات على المعَابِر…
لن أكلفكم بعد هذا اليوم
تنديداً ‘من حالِ أرواحِكمْ’؛
كي تهجعوا قريرَ العيون
من تنمِّرِ الماكدونالزيين…
لن تسمعوا بعدها أحداً يقول:
أسَفاه على أُبَّهَةِ الطاولاتِ المستديرة،
والقمم مشروخة الإسطوانة.
لستُ بحاجة إلى أن تشكروني
على تفريجِ كربتكمْ من مفكريكمْ الأحرار…
أنا الآن “ظلِّي المُجاهد” بعد موْتِي،
وها أنتم كما ترونَنِي مرَابطاً،
لا أسألكم عن بيتٍ،
ولا زادٍ ولا ماءٍ،
ولا دواء،
ولا مدرسة،
ولا مِئْذنة.