هذا النص الشعري يبدو كرحلة وجدانية صامتة، تنحو نحو التوتر الداخلي والصراع مع الذات والعالم. يبدأ الشاعر بحالة القلق، معبّراً عن شعور بالتيه بين “حصى الطريق”، رمز العقبات اليومية والحقائق الماثلة في حياة الإنسان، فيما “خطوات العمر” تشير إلى مرور الزمن ومراقبة الإنسان لمساره المحدود والمقدر. استخدامه للفعل “استرق” مع “نبض قلبي” يوحي بالحرص على اللحظات الدقيقة للحياة، وكأن كل نبضة هي حياة مترقبة، أو خوف من ضياعها.
ثم ينتقل النص إلى صمت عميق، وجدار الصمت، وهو استعارة لقوة الغياب والغياب الداخلي، وربما مواجهة الموت أو الخوف من النهاية. ثنائية “صمت رهيب أنت، صمت مهيب صرت” تخلق إيقاعاً متدرجاً من التوتر، يوحي بأن الصمت تحول إلى كيان قائم بذاته، شيء يقف أمام الذات كقوة لا يمكن تجاهلها.
في المقطع التالي، تتصاعد الرمزية الانتقامية والعدمية: “أرجمك بين الكلمة والكلمة” و”قاتل أنت، قاتلي صرت” تشيران إلى انقسام داخلي وصراع بين إرادة الفعل والوعي، بين اللوم على العالم واللوم على النفس. هنا، يبدو الشاعر وكأنه يلاحق ويلاحق ذاته في عالم لا رحمة فيه، محاطاً بالمفارقات: “وبين الجنة والنار كنت”.
عند حديثه عن السلطة والمظاهر الاجتماعية: “رائعة وجوه أصحاب المعالي، جميلة ألوان الأعلام” و”جميل صوت الخذلان”، يكشف النص عن نقد لاذع للطبقات الحاكمة والرموز السلطوية، مستعرضاً ازدواجية الجمال الظاهري والقبح الداخلي. هذا المقطع يعكس شعوراً بالاستياء من المظاهر المجتمعية والسطحية، بينما يشير استخدام الصفات الإيجابية في سياق سلبي إلى سخرية مريرة.
ثم يتحول النص إلى بعد كوني وديني، حيث يذكر “أجراس الأديان” و”إرهاب الصليب” و”حائط المبكى”، فيعرض تباين الأديان واختلاف الرموز التي يفترض أنها مقدسة، لكنها تصبح أدوات للعنف والخداع. هنا، النص يطرح سؤالاً عن معنى الإيمان والإنسانية في عالم مليء بالتناقضات والمعاناة.
في الخاتمة، نجد صراعاً بين الموت والحياة، بين الظلام والنور: “لون الموت يغطيني، أنا غريق”، و”أسابق الرياح، أنام على الغمام، وألتحف نور السلام”. هذا التحول من الظلمة إلى السلام يوحي بالبحث عن الخلاص الروحي والحرية من قيود العالم المادي والبشري. استخدام الصور الطبيعية – المطر، الغيوم، الرياح – يرمز إلى التجدد والولادة الجديدة، في حين أن “سلام بدون شر الإنسان” يعكس حنيناً إلى عالم مثالي، بعيد عن الفساد والبشرية القاسية.
اللغة والأسلوب:
النص غارق في الرمزية والصور الميتافيزيقية، مستخدماً لغة شعرية حرة دون التقيد بالوزن التقليدي، مع تكرار إيقاعي لبعض الكلمات والعبارات لتعميق الشعور بالتوتر والاهتزاز النفسي.
التكرار والتوازي في الجمل يعززان الإيقاع الداخلي للنص، كما أن الصور المتناقضة (القتل والسلام، الظلام والنور، الصمت والصخب) تعكس صراع الذات مع العالم والموت.
النص يحافظ على وتيرة متصاعدة من الكثافة الانفعالية، مما يجعله أشبه بصرخة وجدانية متواصلة، متنقلة بين الحنين والخذلان والخلاص.
باختصار، النص عمل شعري معقد، يمزج بين التأمل الفلسفي، النقد الاجتماعي، والصراع الروحي، ليقدّم تجربة شعورية غنية ومشحونة بالصور والرموز، تبحث عن معنى الإنسان والحياة والسلام الداخلي وسط عالم متناقض… [نيابوليس الثقافية]
النص:
قلق أنا
أمشي بين حصى الطريقِ
أراقب خطوات العمرِ
واسترق نبض قلبي
أراجع جدار الصمتِ
أستبق نزول السماءِ
وانطباق الأرضِ
صمت رهيب أنتَ
صمت مهيب صرتَ
وأنا أقف بين زوالِ
الروح واللحدِ
بتُّ أرك بلا جدوى
أرتاب منك وامحو
ذاكرتي من الذكرى
ألفظك من وعي الحرفِ
أرجمك بين الكلمةِ والكلمةِ
قاتل أنتَ
قاتلي صرتَ
وبين الجنةِ والنارِ كنتَ
وها أنتَ ألفت العجزَ
تجمّلت بدماء القتلى
رائعة وجوه أصحاب المعالي
جميلة ألوان الأعلامِ
تلك الكراسي تلك الجعجعاتُ
جميل شارب الأميرِ والسلطانِ
جميل صوت الخذلانِ
وبيان معدن الرجالِ
وها قد أقمتُ آذاني
وقرعتُ
أجراس الأديانِ
حائط المبكى
مزار الشيطانِ
كذب أصحاب الكيباهِ
إرهاب الصليبِ
وحرب السلامِ
هذه الدنيا
تحيرني منذُ
اعتناقي جراح لغتي
أسير في درب بلا عنوانٍ
لون الموت يغطيني
أنا غريق
يسحبني الظلامُ
نحو الأعماقِ
يتركني خلّاني
وتُهجّرني الغربانُ
معلنةً ولادتي
ونهاية الإنسانِ
ومن
رحم موتي
مخاضي
السماء وضعتني
على السحبِ
زخات المطرِ
على جسدي
العاري
أسابق الرياحَ
أنام على الغمامِ
وألتحف نورَ السلام
سلام عليّ أينما كنت
سلام بدون شرّ الانسان.