217 أن تولد في مدينة منجمية، ليس مجرّد حدثٍ عابر في سيرة إنسان، بل هو قدرٌ يتسلّل إلى خلاياك منذ اللحظة الأولى، ليخطّ على جيناتك بصمته العميقة.في تلك البقعة الغافية على خاصرة الجنوب، حيث الأرض تتنفّس فسفاطاً والسماء تُخرِج أنينها على هيئة غبارٍ أسمر، يبدأ الحلمُ بالتحوّل إلى معجمٍ خاص، لا يفهمه إلا من عاش هناك، من تشكّلت حروفُ طفولته على رائحة الغبار والكبريت. قفصة… مدينةٌ لا تُشبه المدن.ليست بحرية كمدن الساحل، ولا ناعمةً كمدن الشمال، بل خشنةٌ، قاسيةٌ، صادقةٌ كحجرٍ خرج من جوف الأرض. هي مدينةٌ منجمية بمعناها الكامل، كلّ ما فيها غائرٌ في العمق، حتى الحنين. فيها يتعلّم الطفل قبل المدرسة أن كلمة الڨاميلة ليست مجرّد إناءٍ معدني، بل ذاكرةُ طعام بارد في الداموس، ذلك النفق المظلم الذي يبتلع الرجال كلّ صباح، ثم يلفظهم عند المساء متعبين، مغطّين بغبارٍ أسود يشبه غربتهم عن السماء. هناك، في عمق الداموس، وُلدت أغاني الرجال — تلك الأغاني التي لا تُغنّى للفرح، بل للصبر.أصواتهم تهتزّ تحت الأرض كما تهتزّ القلوب في الصلاة، يتداولون على نوبات العمل على وزن الوجع، فينصت إليهم الحجر قبل البشر. في الليل، حين يعود أولئك الرجال إلى بيوتهم، تفتح النسوة النوافذ كأنهنّ يفتحن القلوب، ينصبن المائدة بانتظار من يعود، فليس كلّ من يدخل الداموس يعود…كانوا يقولونها جملةً كأنها قانون: “الداخل إلى الداموس مفقود، والخارج منه مولود.”جملةٌ تختصر معنى الحياة هناك — بين الفقد والنجاة. أبناء “الكبّانية” — كما يسمّيهم الناس — تربّوا على هذا الإيقاع. يعرفون أن الكانزة ليست مجرد كلمة عامية، بل هي نصف الشهر، موعد صرف المرتب، زمن الفرح المؤقّت الذي يتكرّر كنبضٍ خافت.في تلك الأيام، تتحوّل الأحياء إلى كرنفالٍ من البساطة: أصوات الضحك، ورائحة الخبز الطازج، والأطفال الذين يركضون في الأزقّة الطينية، يتسابقون إلى بائع حلوى فريقيا ودبوس الغول، والنساء اللواتي يشترين القماش الجديد ليخطن به حلماً صغيراً لبناتهن. لكنّ المدينة ليست فرحاً فقط، هي مزيجٌ غريب من التناقضات، كطقسها الذي لا يعرف الاعتدال: صيفٌ يلهب الجلود وشتاءٌ يجمّد العظام.وربما لهذا كان القفصيُّ إنساناً لا يحتمل الوسطية، يعيش بحواسه كلها، يفرح بعنف، ويغضب بعنف، يحبّ بصدق، ويخاصم بكرامة. هو كائنٌ من نارٍ وطين، من عقلٍ حادٍّ وقلبٍ ليّن. ومع ذلك، لا تخلو حياته من الطرافة، فالقفصيّ يملك حسّاً بالفكاهة لا يُضاهى، قادراً أن يحوّل أقسى المواقف إلى نكتةٍ، يضحك بها على نفسه وعلى قسوة الأيام. وكأنّ الضحك عنده مقاومة، نوعٌ من التحدّي ضد الغبار والكدح وضيق الأفق.ولذا وُلد المثل الشعبي الذي يردّده الجميع:“ماكلتك في التبسي كماكلتك مع القفصي.” والمعنى عميق، فـ“التبسي” هو إناء فخاري بلونين محدّدين: نصف أخضر ونصف أصفر، يوضع فيه طعام الكسكسي، وكلّ من يأكل يبدأ من جهته دون أن يتجاوز حدود الآخر.فالمثل لا يتحدث عن الأكل فقط، بل عن الأخلاق، عن احترام المسافة بين الذات والآخر. فالقفصيّ لا يجور، لكنه لا يسمح لأحدٍ أن يتجاوز حدوده. أما الغرباء، فقصّتهم مع المدينة تبدأ دائماً بالدهشة وتنتهي بالدمعة. يدخلونها وهم متوجّسون من بُعدها وجفافها، ثمّ يكتشفون فيها دفء إنسانٍ صادقٍ بلا تكلّف، وكرامةٍ فطريةٍ لا تفتعل شيئاً.ولذا قيل في المثل:“قفصة، اللي داخللها يبكي، واللي خارج منها يبكي.”يبكي الداخل لأنّ قسوتها تصدمه، ويبكي الخارج لأنّ طيبتها تأسره. فقفصة ليست مدينةً فحسب، بل حالةٌ شعورية،جغرافيا من الحنين تمتدّ في ذاكرة من مرّوا بها.هي الأرض التي علّمت أبناءها أن الجمال ليس في الثراء، بل في الصبر، وأنّ الكبرياء ليس زينةً للحديث، بل رائحةٌ تخرج مع العرق. وحين تغادرها يوماً، تكتشف أنّك لم تغادرها فعلاً، لأنّ غبارها عالقٌ في حذائك، ولهجتها في لسانك، وأغاني رجالها في دمك.تكتشف أنك — مثلهم — وُلدت في الداموس وخرجت إلى الضوء، مولوداً من رحم العتمة. قفصة… مدينةٌ لا تُنسى،منجمُ الفسفاط والكرامة والحنين،تعلّم أبناءها أن الضوء يُستخرج من العتمة،وأنّ الجمال الحقيقي لا يسطع فوق الأرض،بل ينبضُ تحتها، في القلب.