الصفحة الرئيسية قصيدة النثر مجيدة محمدي تقول “حياة بين فكّي الموت”

مجيدة محمدي تقول “حياة بين فكّي الموت”

69 مشاهدات 3 دقائق اقرأ

تقديم النص:

يقدّم النص لوحة سردية شعرية تتداخل فيها الرموز بالصور، حيث يفتتح بمشهد ليلي خانق، الليل فيه جدار بلا أبواب، والأرض صفحة من غبار قديم لم يجرؤ أحد على الكتابة عليها. هذه الصورة المكثفة تُبرز حالة العزلة والتيه، وتُمهّد لظهور الصوت الخفي في العظم، ذلك الارتجاج الداخلي الذي يشبه سحابة لم تجد أرضها، وهو رمز الإرادة الكامنة التي تبحث عن تجسّد ووجود فعلي.

يتحوّل النص بعد ذلك إلى مسار الرحلة: خطوات على الحصى، ظلال كالذئاب، وأحجار كعلامات استفهام متكررة. كل شيء يبدو عقبة، لكن الشخصية لا تسعى إلى خارطة أو وجهة جاهزة، بل تريد استرجاع الطريق القديم، أي التمسك بجذور المعنى والوجود، وبناء مقامها بيديها.

في قلب هذه الرحلة، يطلّ “الطفل اليتيم” كرمز بالغ الكثافة. الطفل المكسور هو الشرف نفسه، ذاك الذي تُرك على الهامش، ينتظر من يرفعه ويحتضنه. احتضان الطفل يصبح لحظة مفصلية: إنه قبول لاختبار النار، حيث الشرف لا يُرفع إلا بالإيمان بأن النار لا تحرق من وُلد ليكون وقودها. هنا يتحول الفعل الفردي إلى فعل وجودي يجعل الدم يشتعل في العروق والجسد يصير حجراً جديداً، لتتحول الطريق إلى ملحمة يُكتب فيها التاريخ بالحجر والغبار والصوت.

يمتدّ النص ليؤسس معنى الذاكرة المشتركة، فالبطل لم يعد يسير وحده، بل يجر وراءه ذاكرة السقوط والمقاومة والانتظار. كل ارتعاشة في جسده صفحة جديدة، وكل صمت شهادة على ميلاد المكان من خطاه. وهكذا يغدو المسير ليس مجرد عبور للأرض، بل إعادة خلق لها.

ويبلغ النص ذروته حين يعلن أن المكان ليس حدوداً مرسومة بالحبر، بل قدراً يُنتزع بالدم، وأن الشرف ليس وشاحاً للزينة، بل جمرة تُحتضن ولو أحرقت الجلد. بهذا، تنقلب الرحلة إلى كشف داخلي: الجدران الخارجية ليست سوى انعكاس لجدران داخلية، والكرامة ليست تُكتسب من الساحات، بل تُولد في الأعماق، بين الضلوع حيث يقيم السرّ الأصيل للإنسان.

في الختام، يصبح البطل أمّة تمشي على قدمين، قصيدة مفتوحة على الدوام، فكرة تتنفس وأغنية لا تسكت. إنه يثبت أنّ امتلاك المكان لا يتم بمنحة من أحد، بل بانتزاع شاق يشبه انتزاع الحياة من فكّي الموت. وبذلك، يترك النص القارئ أمام تأمل فلسفي عميق: الكرامة والشرف ليسا معطيات، بل اختبارات، ومن ينجح في احتضان جمرة الحقيقة، لا يعود فرداً معزولاً، بل يتحوّل إلى جذر يثبّت الأرض، ورمز يفتح المعنى للأمة كلها… [نيابوليس الثقافية]

النص:

كان الليلُ يُطبِقُ على الجهاتِ كلِّها كجدارٍ بلا أبواب،
والأرضُ ممدودةٌ مثل صفحةٍ من غبارٍ قديمٍ، لا يَجرؤ أحدٌ على الكتابة عليها .
غير أنّ في العظمِ صوتاً خفياً بدأ يَرتجُّ،
كأنه سحابة مرعدة لم تجد ارضها بعد،
صوتٌ يريدُ أن يتجسَّد،
أن يصيرَ خطواتٍ على الحصى،
أن يُثبت أنّ الحكايةَ تبدأ حين يُصرُّ إنسانٌ على أن يَصنعَ مقامَهُ بنفسه.

مشى… والظلالُ تَطوفُ حوله كذئابٍ من دخان،
والأحجارُ ترتفعُ أمامهُ كسؤالٍ يتجدّد عند كلِّ خطوة.
لم يحملْ خريطةً، لم يسألِ الغيمَ عن وجهة،
يريد استرجاع الطريقِ القديم،
وتطويعَ الأرضِ لتُقرَّ بوجوده.

وفي العراء، لمحَ كائناً صغيراً،
طفلاً يتيمَ الملامح،
يجلسُ على هامشِ الريحِ كأنّهُ ينتظرُ من يعترفُ به.
اقتربَ، فرآهُ مكسوراً، مطعوناً،
طفلاً اغتيل اسمه بالصمت.
فعلم أنّهُ الشرف،
ذلك اليتيمُ الذي أهملهُ الجميع،
المطروحُ على العتبات،
الذي لا يُرفَعُ إلا بيدٍ تؤمنُ أنّ الاحتضانَ امتحانٌ للنار،
وأنّ النارَ لا تُحرقُ مَن وُلدَ ليصيرَ وقودَها.

مدّ ذراعيه وحملهُ إلى صدره،
فاشتعلَ الدمُ في عروقهِ،
صار أثقلَ، لكنّهُ أكثرُ امتلاءً،
وصارَ الجسدُ حجراً جديداً
وانقلبَ الطريقُ إلى ملحمة،
صارَ كلُّ حجرٍ كلمة،
كلُّ غبارٍ جملة،
كلُّ ارتطامٍ بياناً يكتبهُ بصوتٍ لا يَعرفُ التردّد.

لم يعدْ يسيرُ وحده،
كان يجرُّ خلفهُ ذاكرةً بأكملها،
ذاكرةَ السقوطِ والصعود،
ذاكرةَ الذين انحنوا،
والذين قاوموا،
والذين ناموا على أرصفةِ الانتظار.
كلُّ ارتعاشةٍ في جسده كانت صفحةً جديدةً
في كتابٍ لا يريدُ أن يُغلق،
وكلُّ صمتٍ حوله كان يشهدُ أنّ المكانَ يُولدُ الآن،
من خطى إنسانٍ يرفضُ أن يكونَ ظلّاً لغيره.

وفي الليل، حين تخلّت النجومُ عن الحراسة،
ظلَّ يسمعُ في داخلهِ صوتاً يُذكّرهُ،
أنّ المكانَ ليس حدوداً مرسومةً بالحبر،
بل قَدَرٌ يُنتزعُ بالدمّ،
أنّ الشرفَ ليس وشاحاً يُعلَّقُ على كتفٍ،
بل جمرةٌ تُحتضنُ حتى لو أحرقتِ الجلد،
أنّ الكرامةَ ليست امتيازاً،
بل هواءً يساومُ عليه.

ومضى،
لا يتوكّأُ على وعودٍ،
ولا يستظلُّ بذاكرةٍ واهنة،
بل يصنعُ بنفسه سُلّماً من صوتهِ،
ويصعدُ بهِ نحوَ فجرٍ لا يُشبهُ ما عرفناه.
وعند الحافة،
حين ابتلعت السماءُ سوادَها وبدأت تُخرجُ لوناً جديداً،
وقفَ هناكَ كمن صارَ المكانَ نفسَه،
لا ضيفاً، ولا عابراً،
بل جذراً يُمسكُ الأرضَ،
وقصيدةً مفتوحةً على الدوام.

لقد أدركَ أنّ المسألةَ لم تكن رحلةً في الطريق،
بل رحلةً في ذاته،
أنّ كلَّ جدارٍ في الخارجِ ما هو إلّا صدى لجدارٍ في الداخل،
وأنّ الكرامةَ لا تُكتشفُ في الساحات،
بل في غرفةٍ سرّيةٍ بين الضلوع.
وأنّ من يحتضنُ الشرفَ لا يعودُ إنساناً فرداً،
بل يُصبحُ أمّةً تمشي على قدمين،
وفكرةً تتنفّس،
وأغنيةً لا تسكتُ حتى لو صمتَتْ الأرض.

وحين فتحَ الفجرُ نوافذَهُ،
كان واقفاً على العتبة،
ممتلئاً بالمعنى،
مُحتضناً ذلك الطفلَ الذي صارَ قلبَه،
مُمسكاً بمكانٍ لم يمنحهُ أحد،
بل انتزعهُ كما تُنتزعُ الحياةُ من بين فكّي الموت.

  • شاعرة وكاتبة تونسية
    مجيدة محمدي شاعرة وأديبة تونسية، تكتب الشعر، والقصة القصيرة والمقالات الأدبية والاجتماعية، متحصلة على شهادة المدرسة الوطنية للعلوم الاعلامية ENSI متحصلة على عدة شهائد تقديرية ودكتوراه فخرية، من مختلف المؤسسات الثقافية العربية والدولية متابعة للشأن الثقافي العربي اشتغلت سابقا مديرة العلاقات العامة بوكالة سيروس الإعلامية الالمانية وصحفية رئيسة القسم الادبي بها، موظفة، زوجة وأم لثلاث أطفال. لها إصدار شعري بعنوان " انا واخرياتي ومخطوط ديوان آخر بعنوان " نص خارج النص" ومخطوطة كتاب مقالات ودراسات بعنوان "العين الثالثة

اقرأ أيضا

أترك تعليقا