82 في تونس، بلد الثقافة الأوّل عربيًا، ولا أحد يناقشني في ذلك -وبين ردهات (مُلتقى الرواية العربية) حيث تتشابك ينابيع الإبداع وتلتقي الرؤى السردية والأحلام، كان الموعد مع لقاء طال انتظاره ربع قرن من الزمان. لم يكن لقاءً عادياً، بل كان استدعاءً للتاريخ الأدبي الشخصي، وخطوة للاقتراب من جوهر كاتب فذ عرفته الحروف قبل الأعين: الغربي عمران. وعند اقترابك من جوهر مبدع حقيقي، انظر بما تعود! نشأ هذا التعارف الأدبي أولا منذ حوالي ربع قرن مضت، حين كانت مجموعته القصصية الجريئة (حريم أعزكم الله) هي الجسرُ الأوّل الذي عبرتُ منه إلى عالمه السردي الشاسع، وبداية قراءتي الواعية لخطاب قلمه المدهش والموّثِق. ثمّ تعمّق هذا التواصل النقدي حين سنحت لي الفرصة بتقديم مداخلة في مستهل مشروعه الروائي بروايته الأولى (مصحف أحمر) المثيرة للجدل، في ذلك الفضاء المعرفي المتميز: جمعية تنمية الثقافة والأدب بدار سعد، بجهودٍ ذاتية لا تُنسى للمرحوم الناقد محمد مبارك. كانت تلك سنوات التأسيس، حيث كانت الكلمة شعلة نقدية تضيء عتمة الواقع. والآن، وبعد هذا الزمن الطويل، وفي مدينة تعجُّ بالذاكرة والإبداع والسرد، استشعرت جوهر الكاتب الحالم، ورأيته عن قرب، لا كاتباً يبني عوالم من ورق، بل روحاً شفافة تحمل بين جوانحها هم اليمن وأحلامه وجدت فيه ذلك الفنان الذي لم ينفصل عن تربة وطنه المثقلة، فجاءت أحلامه الروائية محملة بأوجاع اليقظة، لتمحو الحدود بين الفن والمعاناة. عندما اعتلى الركح في دار الكتب الوطنية؛ ليقدم مداخلته عن (الحلم أداة الروائي وأجنحته) تجلّت قوة هذا اللقاء. لم تكن الكلمات مجرد آراء نقدية، بل كانت همس روحه التي تعيد سبك الواقع من جديد. لقد تأثرت بعمق وأنا أراه ينسج خيوطاً بين الحلم والواقع، موضحاً كيف يصير الحلم أداة الروائي وأجنحته، ليس للهروب، بل للطيران في سماء الدلالة العميقة. في حديثه، لم يكن الحلم مجرد تقنية لإثراء السرد؛ بل كان ضرورة نفسية وواقعية بل ووطنية، كما لو أن الغربي عمران يرى أن بلاده لا يمكن أن تُروى إلا عبر هذا الفضاء المتجاوز للمنطق، حيث تتجسد الرغبات المكبوتة والأماني المؤجلة. استمعت إليه وكأنني أرى ربع قرن من قراءتي له يتبلور في تلك اللحظة، فالحلم عنده هو الملاذ الذي تخلقه الشخصيات لتعويض النقص أو مواجهة القهر، هو القوة الكامنة في اللاوعي التي تمنحها القدرة على إعادة تشكيل وعيها، ووعي القارئ معه. ويُبرر الغربي عمران هذا الإصرار من منطلق أن الحلم هو الفضاء الوحيد المتاح لـ (نقل الواقع) عندما تتلاشى القدرة على نقله مباشرة، فيصبح وسيلة لتمثيل الحلم الجماعي بالانعتاق من قيود القهر، أو كأداة للسمو الروحي، وكمستودع للرغبات المكبوتة التي تمنح الشخصية أجنحة للتحليق خارج أسوار الواقعية القاسية. فالحلم عنده ليس مجرد تقنية، بل هو همس الروح وعامل أساسي في إعادة تشكيل الوعي المغيب، ما يجعل حضوره حتمياً. ومع ذلك، فإن إطلاق صفة (الضرورة) المطلقة على الحلم يستوجب تفكيكاً نقدياً دقيقا وتأملً. فالاعتراف بقوته الوظيفية لا يعني حتميته في كل نص! يكمن التعقيب الجوهري في التمييز النقدي بين (التوظيف الواعي) الذي يخدم البنية والدلالة والرمزية العميقة، و(الإقحام) الذي لا يعدو كونه حيلة فنية زائفة أو مجرد زينة. إن الحلم، في النهاية، ليس الأداة الوحيدة لولوج اللاوعي؛ إذ يمكن لـ تيار الوعي والمونولوج الداخلي والتقنيات الزمنية المغايرة أن تحقق نفس الأهداف البنيوية والنفسية، ما يؤكد أن الحلم خيار أسلوبي استراتيجي وليس شرطاً وجودياً لا يكتمل النص دونه لقد كان لقاء تونس التاريخي، امتداداً الرحلة بدأت في منتدى محلي، وتجلت في ملتقى عربي. هو لحظة نقدية وإنسانية امتزجت فيها سيرة الكاتب الطويلة، التي بدأت بواقعية قاسية في (مصحف أحمر)، وانتهت بجنوح واعٍ نحو الحلم، ليثبت أن الإبداع الحقيقي لا يكتمل إلا إذا صار الكاتب حالماً يحمل على كتفيه أحلام وطنه وأمته. الباحث مجيب الرحمن الوصابي