571 تعيش قابس اليوم مأساة بيئية واجتماعية عميقة تُجسّد المفارقة الكبرى في مسار المجتمعات الحديثة: مفارقة التنمية التي تُفترض أن تكون مشروعًا للتحرّر الإنساني فإذا بها تتحول إلى مصدرٍ للاغتراب والدمار. هذه المدينة التي كانت واحةً خضراء تتّكئ على بحرٍ أزرق وتمتدّ في حضن الصحراء، أُريد لها أن تكون رمزًا للصناعة الوطنية الحديثة، فصارت، تحت وطأة المجمع الكيميائي، مرآةً قاتمة لتشوّهات المنوال التنموي التونسي ولانهيار العلاقة بين الإنسان والطبيعة. لقد نشأ المجمع الكيميائي في سبعينات القرن العشرين في سياق طموح الدولة التونسية إلى تحقيق الاكتفاء الاقتصادي وتثبيت ركائز التصنيع الوطني. بدا المشروع آنذاك وعدًا بالتنمية الجهوية وبخلق فرص عمل لسكان الجنوب، الذين طالما شعروا بالتهميش مقارنةً بالمناطق الساحلية الشمالية. لكنّ الوعود التي رافقت ذلك المشروع سرعان ما تبدّدت أمام الواقع المادي والبيئي الذي فرضه هذا النوع من الصناعات الثقيلة على الحياة اليومية في قابس. تحوّل الأمل في الازدهار إلى خيبة، وتحولت المدينة إلى فضاء مريض يعيش على وقع تلوث دائم في الهواء والبحر والتربة، حتى صار الإنسان فيها يختنق ببطء دون أن يجد سبيلًا إلى النجاة. لقد اتّضح مع مرور العقود أن التنمية التي بشّرت بها الدولة لم تكن سوى وهمٍ مدمّر، لأنّها ركّزت على الإنتاج الصناعي دون مراعاة الكلفة البيئية والإنسانية. فبينما كانت التقارير الرسمية تتحدث عن ارتفاع نسب التصدير وتحسّن الناتج الداخلي الخام، كانت المؤشرات الصحية والبيئية تنذر بانهيارٍ شامل: مياه البحر الملوثة بالفوسفوجيبس، نفوق الأسماك، تقلّص الواحات، تفشّي الأمراض السرطانية والتنفسية، وهجرة مئات العائلات بحثًا عن بيئةٍ نظيفة. هنا تنكشف المفارقة القاسية: التنمية التي رُوّج لها كوسيلة لتحسين الحياة أصبحت سببًا في تدهورها. في هذا السياق المأساوي، يغدو السؤال الفلسفي ضروريًا: ما معنى التنمية حين تتحوّل إلى قوة مدمّرة؟ وهل يظلّ الإنسان غاية الفعل الاقتصادي أم يصبح مجرد وسيلة في آلة الإنتاج؟ إنّ تجربة قابس تُعيدنا إلى التفكير في العلاقة بين التقنية والوجود الإنساني كما طرحها مارتن هايدغر، الذي رأى أن التقنية ليست مجرد أدواتٍ تُستخدم لتحقيق غاياتٍ نافعة، بل هي طريقةٌ في النظر إلى العالم تجعل كل ما في الوجود قابلًا للتعبئة والاستهلاك، بما في ذلك الإنسان نفسه. في هذا الأفق التقني الصرف، تتحول الطبيعة إلى “موردٍ للطاقة”، والإنسان إلى “مخزونٍ للجهد”، فتُمحى الحدود بين الحياة والشيء، ويغدو الوجود بأكمله خاضعًا لمنطق المنفعة. وهكذا يمكن القول إنّ ما جرى في قابس ليس مجرد خطإٍ إداري أو بيئي، بل هو تجسيد لفلسفةٍ كاملة في النظر إلى العالم، فلسفةٍ اختزلت الوجود في الاقتصاد، والإنسان في الرقم. الإنسان في قابس يعيش اليوم هذه المأساة على نحوٍ ملموس. فهو يدفع من جسده ثمن السياسات التي تُدار من بعيد. الهواء الذي يتنفسه مسموم، والماء الذي يشربه يحمل أثر المواد الكيميائية، والغذاء الذي ينتجه ترابه مشوبٌ بالملوثات. لقد أصبحت قابس مختبرًا صامتًا لما يسميه هانز يوناس “مبدأ المسؤولية”، أي ضرورة أن تُمارس التقنية ضمن حدودٍ تحفظ شروط الحياة. غير أن هذا المبدأ غاب كليًّا في تجربة قابس، إذ لم يكن هناك أي توازن بين منطق الربح ومسؤولية الحفاظ على البيئة. كل طن من الفوسفاط يُصدَّر إلى الخارج يقابله تدهورٌ في صحة السكان وفي توازن النظام البيئي، حتى صار الإنسان ذاته ثمنًا يُدفع مقابل استمرار التصدير. هكذا تتكرّس مفارقة أخرى: الجنوب الذي يُفترض أن ينتفع بالتنمية أصبح مستودعًا للنفايات ومجالًا للتجارب الصناعية. إنّ ما يحدث في قابس يُجسّد ما يسميه المفكر إدغار موران “أزمة الحضارة التقنية”، حيث يُنتج العقل الأداتي ثرواتٍ ماديةً ضخمة لكنه في الوقت نفسه يُدمّر شروط بقائه. فالتقدّم العلمي والتقني لم يُواكبه تطوّر أخلاقي أو بيئي، مما جعل التنمية المعاصرة تتحول إلى آلية لإنتاج الكوارث بدل تجنّبها. لقد كان يُفترض في الدولة أن تحمي الإنسان من تبعات التلوث وأن تضع حدودًا واضحة بين ما هو اقتصادي وما هو إنساني، لكنّها تعاملت مع المسألة البيئية على أنها مسألة هامشية يمكن التضحية بها في سبيل “المصلحة الوطنية“. وهكذا صار التلوث أمرًا يوميًا مألوفًا، بل صار الناس يعتادون على رائحته كأنها جزء من هوية المكان، في حين أن الاعتياد على المرض أخطر من المرض ذاته. هذا التواطؤ الصامت بين السلطة والواقع أفرز نوعًا من الاغتراب البيئي: الإنسان يعيش في بيئة لا تشبهه، ويستمرّ في حياتـه رغم علمه بأنها تتآكل من حوله. إنّ استدامة هذا الوضع لا تعني سوى استدامة الموت. فحين يفقد الإنسان القدرة على الغضب من تلوّث بيئته، يكون قد فقد جزءًا من إنسانيته. وهنا تتجلّى أعمق مظاهر الاستلاب: أن يتحوّل الإنسان من فاعلٍ إلى متلقٍّ، من مواطنٍ إلى ضحية، من كائنٍ حيٍّ إلى رقمٍ في إحصاءات الأمراض. لكن من قلب هذا الخراب ينهض وعيٌ جديد. في السنوات الأخيرة، ظهرت في قابس حركاتٌ مدنية وشبابية تدعو إلى العدالة البيئية وإلى إعادة النظر في منوال التنمية القائم. لقد صار شعار “قابس تريد أن تتنفس” تعبيرًا مكثّفًا عن رغبة المدينة في استعادة حقها الطبيعي في الحياة. هذا الحراك لا يُعبّر فقط عن احتجاجٍ محلي، بل عن وعيٍ كوني جديد يُدرك أن المسألة البيئية ليست قضية فرعية بل هي قضية وجودية تخصّ معنى الحياة ذاته. فالدفاع عن البيئة هو في العمق دفاع عن الإنسان ضدّ استلابه. إنّ الأزمة التي تعيشها قابس اليوم تفتح أمام الفكر الفلسفي أسئلةً تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، لتطال ماهية الإنسان المعاصر ومصيره في عالمٍ تقنيٍّ متسارع. إلى أيّ مدى يستطيع الإنسان أن يظلّ إنسانًا في نظامٍ اقتصاديٍّ لا يرى فيه سوى منتجٍ أو مستهلك؟ وهل يمكن الحديث عن تنميةٍ حقيقية في ظلّ تدميرٍ بيئي منهجي؟ إنّ الجواب عن هذه الأسئلة يقتضي إعادة تعريف مفهوم التنمية نفسه، لا بوصفه نموًّا في الإنتاج، بل ارتقاءً في شروط الوجود. التنمية الحقيقية هي تلك التي توازن بين الاقتصاد والأخلاق، بين التقنية والضمير، بين الأرض والإنسان. حين ننظر إلى قابس اليوم، نرى مدينةً تقف على حافة التناقض: فهي تُنتج الثروة للبلاد، لكنها تدفع الثمن وحدها. إنها تجسيدٌ لما يسمّيه بعض علماء الاجتماع “مناطق التضحية“، أي تلك الجهات التي تُحمّل أعباء النمو لصالح مناطق أخرى أكثر نفوذًا. في هذه المفارقة تتجلى اللامساواة البيئية والاجتماعية، إذ تتحمل فئاتٌ محدودةٌ التلوث بينما تنعم أخرى بثمار التنمية. بذلك تتحول العدالة الاجتماعية إلى مسألة جغرافية، حيث يختنق الجنوب ليعيش الشمال. وإذا كان هذا الواقع يعكس خللًا في السياسات، فهو أيضًا يعكس أزمةً أعمق في الوعي. إنّ الفيلسوف الفرنسي بول ريكور يذكّرنا بأنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش دون “سرديةٍ تمنحه المعنى“. وقابس، وقد فُرض عليها هذا الصمت الكيميائي، تجد نفسها محرومة من المعنى، فلا تاريخها الزراعي ولا ثقافتها الواحية استطاعا الصمود أمام جبروت المصانع. لذلك، فإن استعادة قابس لا تعني فقط إزالة التلوث، بل استعادة السردية الإنسانية التي تجعل من العيش فيها ممكنًا. في النهاية، ليست قضية قابس قضيةً بيئية فحسب، بل هي قضية وجودية وأخلاقية تمسّ كرامة الإنسان ومعنى الحياة في العصر الحديث. إنها تكشف بوضوح فشل النموذج التنموي الذي يفصل الاقتصاد عن الأخلاق، والربح عن العدالة، وتدقّ ناقوس الخطر في وجه عالمٍ يركض نحو التقدّم دون أن يسأل عن اتجاهه. لقد آن الأوان لنعترف بأنّ التنمية التي تقتل الإنسان ليست تنمية، وأنّ الاقتصاد الذي يدمّر شروط الحياة ليس ازدهارًا بل إفلاسًا أخلاقيًا. إنّ قابس اليوم تصرخ باسمنا جميعًا، لتقول إنّ الأرض ليست سلعةً تُباع ولا بيئةً تُستنزف، بل هي امتدادٌ لوجود الإنسان ذاته. حين يختنق الهواء، يختنق الوعي، وحين تُقتل الطبيعة، يُقتل المعنى. لذلك فإنّ إنقاذ قابس لا يعني مجرد إنقاذ منطقةٍ من التلوث، بل إنقاذ فكرة الإنسان من ضياعها في زمنٍ صار يقيس كل شيء بمنطق السوق. التاريخ لن يرحم المجتمعات التي سمحت بتحوّل التنمية إلى شكلٍ جديد من الاستعباد. فإما أن نستعيد المعنى الإنساني للتنمية، أو نستعدّ للعيش في عالمٍ بلا معنى. قابس ليست استثناءً، بل نذيرٌ لما قد يصيب الجميع إذا لم نتعلم أن التنمية لا تكون حقيقية إلا حين تُعيد للإنسان حقّه في التنفس، في الحياة، في الأمل.