471 ملخص المقال مقالنا هذا “نقد أدرنو التطابق في “جدليّة سلبيّة”” معنيٌ ببيان نقد أدرنو للتطابق. في ظل الظروف الحالية فإنّ الطريقة الوحيدة لنقد التطابق في الفكر الفلسفي من منظور أدرنو، هي الجدليّة السلبيّة. ويصف أدرنو هذه الجدليّة على أنّها محاولة للتعرف على اللاتطابق بين الفكر والشيء أثناء تنفيذ مشروع التعريف المفاهيمي. خاصة وأنّ هذا المشروع ينصبُ في إشكالية العلاقة بين “النقد والتنوير” وهو أمر يجعل من مشروع أدرنو النقدي مشروعا راهنا. خاصّة وأنّ للنقد، عند أدرنو، هدفا يطمح للوصول إليه، ألا وهو سلب التطابق. ويصل إلى ذلك من خلال التفكير ضد الفكر. وبعبارة أخرى، التفكير في التناقضات. والتناقض في الجدليّة السلبيّة هو تناقض مع الواقع. ولكي نفهم مفهوم اللاتطابق سوف نتتبع السبيل النظري الذي سلكه أدرنو عندما يستخدم الجدليّة السلبيّة والتي أحدث بها قطيعة مع سابقيه، لا سيما هيغل والماركسيين الأرثوذكسيين المنتصرين للمادية الجدلية. :Abstract This article, ” Adorno’s Critique of Identity in a Negative Dialectic,” aims to elucidate Adorno’s critique of identity. Given the current context, the sole effective approach to critiquing correspondence in philosophical thought, from an Adornian perspective, is through is negative dialectics. Adorno characterizes this dialectic as an endeavor to apprehend the non-identity between thought and thing during the execution of the project of conceptual definition. This project focuses on the problematic relationship between “critique and Enlightenment,” making Adorno’s critical project a timely one. This is especially true since, according to Adorno, critique has a goal it aspires to achieve, which is the negation of identity. He achieves this by thinking against thought. In other words, thinking in terms of contrasts. The contradiction in negative dialectics is a contradiction with reality. To understand the concept of non-identity, we will trace the theoretical path taken by Adorno when he used negative dialectics, through which he created a break with his predecessors, in particular Hegel and the orthodox Marxists who defended dialectical materialism. نقد أدرنو للتطابق في “جدليّة سلبيّة” إشكالية المقال في الواقع ان عنوان هذا المقال يسجل حضوره في الفضاء الفكري النقدي الحديث. ويدلّ النّقد الأدرني في اعتقادنا على راهنيّة هذا المفكّر، الذي مارس فعل التّفلسف بشكل جدلي سلبيّ مغاير. وهو ما نجده خاصّة في كتابه الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” الذي مثّل علامة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي الجدلي على نحو دقيق. وقد انكبّ فيه على خصوصيّة العلاقة بين المفهوم والموضوع وأهمّيتها لفهم قوام وقيمومة الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة”. قد تبدو الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة”، عند تيودور ف.أدرنو، ثوريّة بروح تحريريّة. إذ تُحرر التفكير من السيطرة، وذلك بتحريره للتفكير الهوَوي من “التّطابق” وفتحه على الآفاق الممكنة للتّغيير والبدائل الجذريّة على أساس تفكير لاهوَوي. “وقد ارتبطت الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” عند نقطة انطلاقها بالفئات العليا لفلسفة الهويّة”[1]. لذلك فهي تنقد الهوَوي. وعليه، إنّ علاقة أدرنو بمبدأ الهويّة يجب أن تُفهم دائما بطريقة جدليّة[2]. لهذا قد اخترتُ في مقالي خوض مغامرة تحليلية لمسألة “نقد أدرنو نظرية التطابق في الجدلية السلبية”. والتي تنهض على إشكاليّة مركزيّة يمكن صياغتها على النحو الآتي: كيف تصوَّر أدرنو علاقة المفهوم بالموضوع؟ وكيف نظر للمفهوم ودوره النقدي لواقع المجتمعات الغربية؟ وهل يمكن له بمفرده إحداث تغيير اجتماعي أم لا بد له من التآزر مع الموضوع لتحقيق هذا الهدف؟ للإجابة عن هذه الإشكالية رسمنا تصوّرا يتضمّن، إضافة إلى تحليل نقد أدرنو للتطابق، تفسيرا للنقاط الكبرى التي قامت عليها جدليّته السلبيّة. ويمرّ ذلك عبر معاينة ما تحتمله سياقاته النقديّة من خلال الفهم الذي تُتيحه القراءة الفاحصة للنص الأدرني. ولا شكّ في أنّ نقد نظريّة التطابق له النصيب الأكبر في تكوين معالم جدليّة سلبيّة. ويعبّر عن ذلك في قوله: “تغيير هذا التوجه للمفهوم وتحويله نحو اللامتطابق، هذا هو مفصل الجدليّة السلبيّة”[3]. ويقود التركيب بين هذه المفاهيم إلى الأطروحة التي تفيد بأن أدرنو ينقد التطابق ليضع اللاتطابق ليس باعتباره بديلا بل جديرا بالثورة على الوثوقيّة والهُويّة الإيجابيّة المطلقة. لذلك، ينطلق المفكّر دفاعا عن تصوّره من تأكيد فكرة أساسيّة تكمن في جعل تحديد الجدليّة مشروطا بالنقد. وهو ما يعني أنّ الفكر الفلسفي نقديّ بالأساس لا يسلّم بحقيقة واحدة ولا يتآلف ولا يتطابق. وهكذا ينسلخ النقد من الفكر الفلسفيّ الذي كان روحه، ويصبح اللاتطابق ضرورة في عملية التفلسف نظريا وتطبيقيا. نظريا: النقد الأدرني للمثالية المطلقة إنّ نظريّة التّطابق أعطاها هيغل شكلها المكتمل وفيها تأكيد على هويّة الذات والموضوع، واعتبر أنّ هذه النظريّة هي الفرضية الوحيدة لبلوغ الحقيقة. وأن الذات العارفة لذاتها عليها أن تفكّر ذاتها على أنّها تُماثل المطلق. لهذا كانت كلّ معرفة لعين الذات متطابقة مع ذاتها. ومن ثمّة ينتهي هيغل إلى نتيجة تقضي بأنّ تفكّر الهُويّة وليد الوحدة المفهومية للمتناقضات. والوحدة هي نتيجة تجاوز التناقضات. وعلى هذا النحو تكون الهُويّة مشروعا فلسفيا موجّها للعالم. فالهُويّة المطلقة هي النقطة الأخيرة التي يقف عندها المشروع الهيغلي عبر تحديدٍ مفهومي. لذلك، يُعتبر تطابق المفهومي مع الموضوعي جوهر هويّة الروح المطلقة مع العالم. ويتحقّق التّوفيق على صعيد المفهوم في الفلسفة التي اعتبرها هيغل موسوعة العلوم لأن ما يعلّمه لنا المفهوم –في الفلسفة – هو نفسه ما يكشف عنه التّاريخ عبر التّجربة الجدليّة التي يخوضها الوعي. ومنتهى التّجربة الفينومونولوجيّة يكون بهويّة تتمّ فيها المطابقة بين الذّات والموضوع اللّذين كانا بدورهما وحدة قبل أن ينشطرا إلى قطبين تربط بينهما حركة جدليّة. يمثّل الفكر الهوَوي، عند هيغل، الوحدة المفهوميّة للمتناقضات. وتنتج هذه الوحدة عن تجاوز هذه التناقضات. وقد شرح هيغل هذه المتناقضات على الشّكل التّالي: إنّ هويّة الشيء تتشكّل من خلال التّطابق مع اللاهوية، مع الاختلاف الذي يؤسسه الشيء بينه وبين ما يستبعده من نفسه. بهذه الطريقة، لا تخلو الهويّة من اللاهويّة، بل لها أخرى داخل ذاتها. هكذا، صار بيّنا أنّ أيّة هويّة محدودة هي متناقضة، حيث تتطابق مع نقيضها. وعليْه، كلّما أصبحت الهويّة مطلقة ومستقلة، زادت معارضتها الداخليّة. بالنّسبة للعلاقة الأساسيّة بين الذات والموضوع المكوِّنة للمعرفة، تعني فكرة التّطابق مع اللاهويّة التي يتشكّل فيها الموضوع والذّات بشكل متداخل. خاصّة وأنّ الموضوع، الذي هو دائمًا متطابق مع ذاته، يعتمد على ماهيَة موضوع المعرفة اللامتطابق؛ في نفس الوقت الذي يتكوّن فيه هذا الموضوع من الذات نفسها. لذلك، يجب تصوّر الفكر الهوَوي على أنّه النظام الفلسفي الموجّد للشيء مع مفهومه الذي جعل من الفكر أو الروح هويّة الوجود. ومن هنا صارت جدليّة هيغل فلسفة “للتطابق” وإن كانت تقوم على التناقض: إذ ما يسود دائما هو هويّة الروح. فجدليّة التطابق تنتهي دائما إلى الكليَات. إذ تقوم بنفيِها حتّى تظلّ ملتصقة بموْضوعها العيْني. في هذا الإطار، جعل هيغل الجدليّة آلة مسجونة في المثاليّة. وعليه، إنّ الفكر الهوَوي هو تطابق الشيء في ذاته مع مفهومه. ومن ذلك يتّضح أنّ ما يبدو مباشراً أو مستقلاً على نحو كلّي إنّما يتحقّق في الواقع بـ”التّوسط” لأنّه يعتمد في هويّته على عنصر مختلف منه، به تتحقق هذه الهويّة[4]. إنّ أيّة علاقة للمفهوم مع الموضوع غير متحقّقة تاريخياً لن يكون لها معنى كفكرة. وهو ما لخّصه هيغل في أنّه ما من محاولة للإشارة إلى “العيّني” المحسوس يمكن أن تحرر نفسها بالكامل من المقولات الكليّة. وهكذا، انتهت تجربة الوعي الّتي بنى عليها هيغل كلّ فلسفته إلى إسقاط البعد الذّاتي منها بما أنّه ينصهر في الجماعي ليصبح موضوعيّا. وكذلك آلت إلى حذف الاختلاف القائم بين المشروط والمطلق لكيْ يكتسب المشروط مظهر اللاّمشروط. على الرغم من أنّ أفكار هيغل مبنيَة بشكل منطقي و أنّ حججه تبدو متضمّنة لنوْعٍ من الاقناع، غير أنّها ككل الأفكار الفلسفيّة قابلة للمناقشة. وبناء على ذلك، رفض أدرنو نظريّة “الهويّة”، التي يعتقد هيغل بأنّها نظريّة تامّة ومتكاملة، “التي ترى أنّ هناك تطابق بين الذات والموضوع”[5] وأنّ كلّ ماهو في الذّات يوجد في الخارج وكل ماهو في الخارج موجود في الدّاخل. بمعنى آخر تطابق الفكر والواقع. إنّ التطابق الذي أكّد عليه هيغل في فلسفته بين المفهوم والموضوع هو علامة على انغلاق النّسق وبلوغ الحركة الجدليّة منتهاها الموجب. وهو أيضا السّبب الرئيس لنقد أدرنو، من حيث الجوهر، هذه النّزعة التّطابقيّة بين العقل والواقع وبين الذّات والموضوع وبين التّاريخ والمطلق وبين المفهوم والشيء. يتعلق الأمر، في البداية، بمعارضة الكليّة الهيغليّة من خلال إظهار عدم هويتها بالواقع: أي عبر الكشف عن أنّ ادعاءها بفهم لا تشوبه شائبة للواقع هو وهم قمعي، لأن “سلب السلب ليس إيجابيا حتى لو دفعناه إلى أقصى الحدود”[6]. وهو ما يفيد أنّ الهويّة الكليّة بين المفهوم والشيء هو وهم لا يمكن كسره إلا من خلال إظهار في كل مرة في جميع العمليات الفكريّة والثقافيّة المأخوذة في تفردها. كيف يعتمد المفهوم على اللامفهوم؟ إن المفهوم سيحل قيود الهويّة التي يحملها المفهوم بداخله دون مثل هذا الانعكاس الذي يتعارض مع هذا القيد: من ظهور كائن في حد ذاته للمفهوم الذي يعتبر كوحدة للمعنى، وانعكاسه الذاتي حتى في معناه الخاص[7]. بعبارة أخرى، أنّ سلبيّة المفهوم الذي يمنع أي تقارب بين الذات والموضوع لا يمكن أن تبرر التخلي عن الفلسفة التي تجنّبت مثل هذا السلب ولا الإنحناء له. الأمر متروك لها لبذل الجهد لتجاوز المفهوم من خلال المفهوم[8]. إذن، عارض أدرنو نظريّة التطابق لأنها تُحَوِّل الجدليّة إلى كليّة. واعتبر أنّ الموضوع ليس آنيّا، ولكنّ الذات تتوسط فيه بشكل أساسي. انطلاقا من هذا الإقرار، ألا ينبغي اعتبار الذات أساسا، والاعتراف بهُويّة الذات والموضوع؟ يجرّنا السؤال إلى استخلاص ما انتهى إليه أدرنو لمّا أكد أنّ الموضوع يمكن له الارتقاء إلى هذه المرتبة فقط على أساس الوساطة الخاصة بالذات. وفي الواقع، يتجلّى الرهان النهائي للجدليّة الأدرنيّة في التأكيد على اختلاف المفهوم في ما يتعلّق بالموضوع مع الحفاظ على الطابع الوسيط، لأن التوسّط التأسيسي للموضوع لا يسمح بامتصاصه في المفهوم. فالشيء على سبيل المثال: كائن بشري، أو شجرة، أو سيارة… يتم تحديده بواسطة المفهوم. لذلك، لا يعيّن شيء ما جوهرًا مجردًا أو حقيقة فجّة، بل هو يَكمن في توتّر العام والخاص. لهذا السبب بعينه، وصفه آدرنو بـ”المتمايز”. ويشير المفهوم أيضًا على العكس إلى شيء مثل ما يعطيه اللامفاهيمي. ونظرًا إلى هدفه اللامفاهيمي، فإن المفهوم لا يمثل البتّة مفهومًا عامًا يتم الحصول عليه من خلال تجريد ما هو مشترك بين فئة من الأفراد الذين يقعون تحته، بل القصد من المفهوم وفق عبارة أدرنو هو “التعبير الكامل عن ما هو مدلول”[9]. إذ، ليس من الغريب رؤية أدرنو قد أظهر اهتمامًا خاصًا ب”الوساطة” محاولا تحديد اعتباراتها الخاصّة بـ”السلب” من خلال التركيز على مفهوم “الميميزيس”[10]. حيث قام التوسيط “بدور جوهري لسلب الفردي والكلي في تطابقهما المحض، ذلك أنّ الوقوف عند الفردي هو موقف لاعقلاني، في مقابل الكلّي العقلاني الذي يهيْمن على كل شيء”[11]. بمعنى لا ينبغي فهم المفهوم المركزي لـ”الوساطة” بشكل منفصل على أنّه مصطلح متوَسط بين طرفين نقيضيْن أو بين البدائل التي يجب التوفيق بينها، ولكن بوصفها رحلة ضروريّة تذهب إلى أقصى الحدود. وفي السياق عينه، يظهر الاختلاف في الوساطة بين أدرنو وهيغل. فلئن تبنى أدرنو فكرة هيغل التي تنصّ على الوساطة، فإنه نزع عنها الطابع الكليّ واعتبرها لا متطابقة في مسألة المفهوم والواقع لأنّ كل واحد منهما قائم بذاته. وهذا التوازي هو الحجّة ضد كل اعتبار يُسقِط فيه الفكر الأدرني في النسبيّة. وبه تشكل الجدليّة لاهويّة حازمة وصارمة. ومربط الفرس هنا يتجلّى في أنّ اللاهويّة تكمن في الفائض الذي تمتلكه حقيقة الشيء على الواقع. على سبيل المثال: فإنّ اللوْن “الأبيَض”، الذي نراه، مثلا، في قطعة السكر، هو أكثر من مفهوم “الأبيَض”؛ ومن ناحيَة أخرى فإنّ مفهوم “الأبيَض” يعبّر عن المزيد من ذلك “الأبيَض” بعيْنه، إن لم يكن أكثر من كل الأبيَض المتعيَن. علاوة على ذلك، تنبثق اللاهويّة هذه من حقيقة أنّ شيئًا ما ينافر الآخر. وبهذا المعنى، يتبيّن أنّها لا متطابقة. وفي هذه النقطة بالذات يظهر تأثره بموسيقى شيُومبورغ التي توصف باللاتناغم وبعبارة أدقّ بالنشاز. وهكذا، فإنّ الموضوع ومفهومه أو الواقع والمعنى، حسب أدرنو، ليسوا حقائق في حدّ ذاتها بل هي عناصر الجدليّة المتوازية واللامتداخلة. كما أنّ الشيء اللامفهومي يشير في حدّ ذاته إلى شيء لامفهومي والشيء المفاهيمي يشير إلى شيء لامفاهيمي. إنّهما سمتان تميّزان هذا التوازي بشكل خاصّ في الجدليّة لأنّ أقطاب العلاقة يُحفّز بعضها بعضا وفي الوقت نفسه، يَتعدّى بعضها على بعض. وعلى الرغم من ذلك فإنّ كلا منهما لا يتماهى مع الآخر. لذلك، تهدف جميع المفاهيم في الحقيقة بما فيها المفاهيم الفلسفيّة إلى اللامفاهيمي لأنّها لحظات من الواقع تتطلّب تكوينها[12]. وهو ما يعني أنّ التأمّل الفلسفي يضمن اللامفاهيمي في المفهوم[13]. ومنه، يمكن استنتاج أنّ الشيء أكثر مما هو عليه،. يعني أنّه كل شيء مفهومي وغير مفهومي. في هذا السّياق النّقدي، أكّد أدرنو أنّه “من الضروري فحص أي مفهوم حتى بمعناه الخاص[14]. لذلك تتحرّك هويته ويصبح اللامتطابق مع نفسه. هذه الحتميّة هي ضروريّة للتحليل وليس للتأليف”[15]. بمعنى، إذا كان الفكر يلعب دوْريْن وهما: أوّلا فهم الواقع من خلال تحديده، وثانيا كسر هذه الهوية من خلال نقد الديناميكيّة المثبتة تحت الهوية[16]، فإنّ “السلب” يقول اللاتطابق من وجهة نظر التطابق. وعليه، فإنّ فكرة اللاتطابق أصبحت هي الفرق البيّن بين سلبيّة أدرنو وإيجابيّة هيغل. وكان ماركوز نوبري واحدا من بين الملاحظين الفرق بين النموذج الأدرني للنقد الجوهري والنموذج الهيغلي في كتابه “الجدليّة السلبيّة لثيودور أدرنو – أنطولوجيا الدولة الطائفة”. يجدر الإصرار بكلماته على هذا الجانب “بالنسبة لأدرنو النقد الجوْهري لا يعني مقارنة المفهوم بالمفهوم في ضوْء وحدته (الحالية أو المحتملة). بل يعني عدم هويّة المفهوم وتصوُره في ضوْء الوهم الضروري لهويتك الحقيقيّة. “فيما أبعد من المخالفة والاختلاف والمباينة، بل وفيما أشد من “المابعديات” الهجينة جميعا بما في ذلك “ما بعد الحداثة” و”ما بعد الميتافيزيقا”، تشي تلك المغايرة الاستيطيقية بما هو في نظر أدرنو الإمكان الاستيطيقي الفعلي، تعني “السلبيّة المطلقة”، لأنّ “ما سيتعيّن فهمه مفهوميا في الوضع الراهن” إنّما هو “عدم قابليَة الفهم مفهوميا”[17]. إذ أنّ المفهوم يسعى دائماً إلى معرفة اللامتطابق لكي يتطابق مع الشيء وينتج هويّة جديدة. وهذا يعني أن تأمل أدرنو الجدلي ليس نفياً ذاتياً كلياً للذات المفكرة لأن الذات تصبح واعيةً لما هو حقيقي فيها ولما هو زائف ولكن ما تزال قوّة التفكير المفاهيمي هي التي تقوم به. ونتيجة لذلك يصبح النقد الجوهري ملزم بأن يرحب في حد ذاته بالعنصر المادي للمفهوم الذي لا يمكن أن يستوعبه المفهوم[18]. فقط المفهوم يمكنه أن يستجيب للمفهوم من خلال اللامفهوم. خاصّة وأنّ “التأمل الفلسفي يضمن اللامفاهيمي، في المفهوم [19]. وفي هذا النقطة قدّم أدرنو مثال الفن في قوله الحازم: “لا يتخلى المفهوم الفلسفي عن الحنين إلى الماضي الذي يحرك الفن بقدر ما يخلو من المفاهيم، وهو الفن الذي يجعل من إدراك الآنيَة مظهرًا. ينكر المفهوم هذا الحنين إلى الماضي. لا يمكن للفلسفة مراوغة مثل هذا النفي أو الامتثال له. وهو ما يعني، بذل الجهد لتجاوز المفهوم من خلال المفهوم [20]. ووفقًا له، فإنّ الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” لا تكتفي بالتعبير المفاهيمي عما هو مطابق في الموضوع للمفاهيم التي تسمح بإدراكه، ولكنها تعبر أيضًا عن ما لا يتطابق مع هذه المفاهيم. إذن، إنّ تغيير هذا التوجه للمفهوم، وتحويله نحو اللامتطابق، هذا هو مفصل الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة”[21]. ومنه، جسّد أدرنو مبدأ اللاتطابق في نظريته الاستيطيقية التي تعبّر عن الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة”، بل هي النظريّة الأكثر جوْهريّة في التعبير عنها. ولكن هذه الهويّة الاستيطيقيّة تختلف عن هويّة التفكير المفاهيمي، فهي لا يتم استخلاصها من الذات وإنما من الأثر الفني نفسه كواقعة مكتفيَة بذاتها. ولذلك فهي ليست محكومة بمنطق تماثل الهويّة وإنّما بمنطق اجتماعي. ومن خلال هذا الطابع الاجتماعي تصبح الأثار الفنيّة موضعاً ممكناً لنظريّة اللاهويّة. ويعرّف أدرنو الأثار الفنيّة كترابط غير مفاهيمي بين الإبداع الذاتي –قائم بذاته- والآخر الموضوعي –الطابع الاجتماعي. ومنه، إنّ الخاصيّة غير المفاهيميّة هي الحاسمة في دور الفنون كمتحدث عن الطبيعة المقموعة (اللاهويّة). وهي تلعب هذا الدور بالتعبير عن تلك الوحدة الماديّة بين الذاتيّة والطبيعة (الموضوعيّة) التي ينكرها التعارض الصلب بين الذات والموضوع في التفكير المفاهيمي. وفقا لما تمّ ذكره، يمكن تحديد الفرق الأخير بين الفكر الجدلي والآخر الهوَوي كما يلي: إنّ التفكير الجدلي يريد أن يقول ما هو الشيء بينما تفكير الهويّة يريد أن يُصنّف الشيء أو أن يُحدّد الفئة التي هو نموذج لها. أي “إنّ التفكير في الهويّة يقول الشيء الذي يقع تحته الشيء، والذي يشكل منه مثالًا”[22]. ولذلك تكون الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” هي تجربة التفكير في هويَة اللاهويّة. هذه التجربة لم تصبح ممكنة بفضل هويَة الهويّة واللاهويّة، كما هو الحال عند هيغل، وإنّما صارت ممكنة بفضل لا هويَة الهويّة واللاهويّة كما ذهب إلى ذلك أدرنو، أي بسبب عدم تماثل الهويّة واللاهويّة. وهو ما يفيد أنّ أدرنو رأى عكس ما رآه هيغل واعتبر أنّه لم يتمكن من إيصال اللاهويّة إلى عتبة المنطق، وهذا ما يمثل عصارة قوله في ما يلي:”لا يستطيع هيغل نفسه أن يتحمل أدنى أثر لللاتطابق في بداية المنطق، وهو الأثر الذي تذكره كلمة “شيء ما”[23]. وفي هذا دون ريْب رد على مقولة الهويّة الفكرية. إن إدراك الهويّة ضمن تنوّع متعدد واستيعاب الاختلافات داخل المتشابه. لا يستقيم إلا لحظة نقد المقولة دون نقضها. من البيّنِ أنّه لم تكن التّطابقيّة الهيغلية موضع قبول أدرنو واعتبرها رمزا لانسياق هيغل في الأيديولوجيا البورجوازيّة. لذلك فقد انصبّ النّقد على هذا الحلّ “المزيّف” بماهو العائق الأيديولوجي الّذي منع المنهج الجدلي- الّذي اتّبعه هيغل- من بلوغ النّواة الثّوريّة للنّقد. فنقد الأيديولوجيا الهيغلية يبيّن أنّ تطابق الفكر والوجود ليس إلاّ مجرّد “هويّة زائفة” خاصّة وأنّ مهمّة الأيديولولوجيا التّطابقيّة تتجسّد في إخفاء الفكر لحقيقة الواقع البائس. وهو ما بعني، أنّ العقل لم يصبح عاجزا عن فهم الواقع بسبب عجزه الشّخصيّ، بل لأنّ الواقع ليـس هو العقل. وهو ما يفسّر لنا ما يلي: لم تكن أيٌ من المصالحات التي أكّدتها المثاليّة المطلقة من المصالحات المنطقيّة إلى المصالحات السياسيّة التاريخيّة صحيحة[24] ولا حتى الثقافيّة مثل الشكل والمحتوى. تبعا لهذا التّفسير، إنّ النّتيجة الّتي انتهى إليها فيلسوف “الرّوح المطلق” غير مطابقة للواقع التّاريخي ومشوّهة له. وعليه، إنّ المشكلة الرئيسية للفكر الهوَوي ليست بالمعنى الدقيق للكلمة تتجلى في المنهج العلمي الذي هو منهج للعقل: ولكن الطموح لمجمل هذه الهويّة التي تصبح ايديُولوجيّة علميّة بسيطة تتطلّب الخضوع الموضوعي لكل ذلك لهذا كانت “الهويّة هي الشكل الأصلي للإيديُولوجيا[25]. نستنتج، على الرغم من اتفاقهما على مبدا الطبيعة التساؤلیة بين المتناقضات الفكر والوجود، الشيء والمفهوم، الذات والموضوع، إلخ، إلا واختلفا في مشكل “نظرية التطابق”. لهذا كان القول مع هيغل بإمكانية التّطابق بين الفكر والواقع يعتبر قولا يمكن دحضه وتفنيده على اعتبار أن الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” هي تقويض لنظريّة التّطابق، وهي نقد راديكالي للمفكر النظامي الذي أصبح أكثر ثقة في التجريد الخاص بالمفهوم والفرد في الهويّة بعقل تاريخي. عمليا: تطبيق جدل السّلب على نظريّة الهويّة كان حافز أدرنو للـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” ليس مفاهيميا. كما كانت نظريّته ماديّة تبحث في معاناة الجنس البشري المتمثّلةً في حقيقة اللاعقلانيّة. خاصّة وأنّ المعاناة هي الأثر المتبقّي عقب جسد القربان الاجتماعي وهي الشيء الذي يقوم عليه الوعي البشري: فـ“الحاجة لاستنطاق المعاناة هي أعلى الحقائق صدقاً، فبها يتساوى النسبي المتغير بالموضوعي المطلق”.[26] والبيِّن من هنا تقارب الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” لأدرنو مع الجدليّة الماديّة الماركسيّة التي تهدف إلى إلغاء الرأسماليّة. وليس التقدم نحو العودة إلى الشيوعيّة. والحال أن أدرنو قد قام بنقد الفكر المادّي بشكل ليس أفل حزما من نقده للفكر المثالي في مسألة الهويّة وهذا ما تشهد به تحليلاته النقديّة لمبدأ التبادل. إذ بالنسبة لأدرنو فإنّ توجيه الفكر نحو اللامتطابق يؤدّي إلى علاقة نوْعيّة بالعالم. وبالتالي إلى نقد جذري للحداثة في كافة سياقاتها. لذلك، كان تعميم مبدأ التبادل مع الرأسماليّة يميل إلى تعميم مبدأ الهويّة. إذ يكمن مفهوم التبادل في فكرة الشيء المتبادل، الأمر الذي قاد أدرنو إلى اعتبار أنّ تطور الرأسماليّة، في تحليل ماركس، يجعل الشكل السِلعي مركزيًا[27]. وماهو معلوم أنّ ماركس قد بدأ بالفعل دراسته للرأسماليّة في “رأس المال” بتحليل “السلعة”. إنها تفترض وظيفة مزدوَجة للسلعة: قيمة استخدام نوْعيّة وقيمة تبادل كميَة[28]. في ظل الرأسماليّة تميل قيمة الاستخدام إلى أن تصبح أقل أهميّة وينتهي بها الأمر إلى أن تدرج تحت قيمة التبادل. في “جدليّة التنوير” شرح أدرنو هذا الجانب من التبادل الذي يجعل كل شيء متطابقا. فمبدأ التبادل هو اختزال العمل البشري إلى المفهوم العام المجرد لمتوَسط وقت العمل مرتبط بالأصل بمبدإ التطابق. بالمقابل فإنّ هذا المبدأ له نموذج اجتماعي ولن يكون التبادل قائمًا من دون هذا المبدإ؛ من خلال التبادل، تصبح الكائنات الفرديّة والأداء اللامتطابق متكافئًا ومتطابقًا.[29] هذا الاستنتاج هو أساس التحليل الأدرني للهويّة. في تحليله للتبادل. إنّ ماهو لافت للنظر، في هذه النقطة، أنّ أدرنو “لا يقترح العوْدة إلى شكل من أشكال التبادل ما قبل الرأسماليّة.[30] ولا قفزة إلى الأمام في شكل من أشكال الحياة حيث يكون التبادل عديم الفائدة. بدلاً من ذلك، حاول تطبيق جدليّة السلب من خلال البدء من الوعي المغترب أو الموضوعي حتى يتسنى له ادراك ما ينجو. لذلك “إنّ نقد مبدإ التبادل باعتباره تفكيرًا محددًا يريد تحقيق المثال الأعلى للتبادل الحر والعادل الذي كان حتى أيامنا هذه مجرد ذريعة صافيَة”[31]. ولا يتقوَم هذا المثال الأعلى للتبادل الحر عند أدرنو إلا من خلال الحفاظ على اللاتطابق الذي يتطلّب بدوره الحفاظ على العلاقة الموضوعيّة الخاصة بهما. فالحفاظ باللاتطابق والاعتراف بمشروعيته هو شهادة اسقاط الهويّة التي كانت أهم سماتها المباشرتيّة. وهكذا، وفقًا لأدرنو، فإنّ التحوُلات البنيويّة للمجتمع جعلت مفاهيم وتصنيفات الفلسفة المثاليّة غير كافية لترجمة الواقع الاجتماعي والتاريخي. نتيجة لذلك، يقدم الواقع نفسه للفلسفة بوصفه رقما[32]. لهذا تصبح النظريّة النقديّة بالنسبة لأدرنو هي النظريّة التي تعطي صوتا لمقولة اللامتطابق. وبذلك تظهر عدم قدرة الهوية على الوقوف على هذا النحو رغم قدرتها على ضمان إغلاق الحدود التي أقامتها أمام ماهو آخر غير نفسها. فالواقع يتغيّر ويتشكل في أشكال عديدة، والذات تقوم بعمليّة سلب مستمرة لمفاهيم عن العالم، فـ”حركته لا تميل نحو الهويّة في اختلاف كل موضوع مع مفهومه؛ بدلا من ذلك، فإنّه يلقي الرّيبة على نفس الشيء. منطقها هو منطق النقد. ينقد الشخصيّة الأوليّة والموضوعيّة للمفاهيم. والتي أوّلا وقبل كل شيء يواجهه الشخص المدرك على الفوْر[33]. وعليه، إنّ الواقع في صيْرورة دائمة والذات تقوم دائما بعمليّة سلب لمفاهيمها عن العالم. بمعنى أنّ فاعليّة الذات تكمن في سلب تصوراتها عن الموضوع ونقده. وهو ما أدّى إلى تخلّص الفكر من وهم ادراك الواقع بكوْنه كليا، لكيْ يتسنّى التعامل معها وفق منطق الهويّة، أي الإحالة للذات لأنّه يتماثل معها. في هذا الموضع، نقد أدرنو لوكاتش في نقطة إنشائه لصيَغ هويّة جديدة. لقد فضح الدوغمائية في أعماله عبر توْليَته الاهتمام الشديد للصيغة التي قدم بها فكره، أي لأسلوبه. ففي حين أعجب أدرنو بأعمال لوكاتش، بما فيها “التاريخ والوعي الطبقي”، إلا أنّ أشدّ ما عارضه هو مبادئه في نقده الأدبي، ونقد على وجه الخصوص عجزه على فهم الحداثة في الفن. فقد قدّم نقدا للنظريّة الانعكاسية اللوكاتشيَة ولعمليّة التحرر التي كانت من لوازم النظريّة الماركسية التي فشلت في تحقيق الثورة المتوخاة لها. إذ تقفّى أدرنو أثار الواقعيّة في عمل لوكاتش وتحديدا في قبوله فن الاتحاد السوفياتي الرسمي كانعكاس لواقع المجتمع، وقبوله للواقعيّة الاجتماعيّة، والتي تتّسم بالتشيُؤ، فمن يتأمّل في مسألة تشيؤ الفرد، يرى اغترابه فما جدوى من القيام بانعكاس له؟ وعلى هذا الأساس ذهب أدرنو بمعيَة الأدب الطليعي إلى اعتبار أنّ الجدليّة لا تفسِّر إنّها تقود إلى عتبة التفسير ولكنّها لا تتجاوز هذه العتبة، ودعا إلى سلب المجتمع بدلا من القيام بعمليّة انعكاس للا انسانيته. لذلك، رفض أدرنو “الحادية عشرة” والأكثر شهرة من “أطروحات فيورباخ”، لأنّه من خلال تفسير العالم تساعد الفلسفة على تغييره[34]. إذ ليس يخفى على أدرنو أن يعي أنّ الجدليّة الماديّة بدل أن تتصدّر قافلة تغيير الواقع بقيُة تعبيرا كتابيا لفكر إيديولوجي. فلوكاتش يموت من داء الدوغمائية الذي يعالجه أكثر بكثير من أولئك الذين يندّد ضدّهم. بل حاول إعادة تعريف العلاقة بين الفلسفة والتطبيق العملي[35]. طبقا لذلك، نستنتج إنّ أدرنو لا يقطع الحبال مع الجدليّة الماديّة بقدر ما كان يُداوي بالتي كانت هي الدّاء. إن رفض أدرنو المطابقة بين الواقعي والعقلي لا يعني البتة تأييده للموقف اللاعقلاني وإنما هو يرى أن تنكّره للعقل يتأتى من نقده. إذ لا تقول الجدليّة في البداية شيئا أكثر من الأشياء التي تكون ليست مستفيدة منها في مفهومها. وأنّها تتعارض مع القاعدة التقليديّة للهويّة لأنّ الشيء الذي لم يتم تحديده في هذه الهويّة والتي اعتقدت البدائل، مليء بالتناقض ويستعصي على أيّة محاولة للتفسير بالإجماع[36]. لذلك، إنّ التناقض هو مؤشر كذب التطابق واستنفاد المفهوم في المفهوم. ومن أجل ادراك الطابع الوهمي للكليّة المفهوميّة يبقى فقط كسر وهم الهويّة الكليّة بطريقة جوْهريّة. فالجدليّة هي الوعي اللاحق باللاهوية وعكسه يؤدي إلى “انحدار الوعي” الذي “هو نتاج افتقاره إلى التأمل الذاتي[37]. ومنه، كان النّزوع إلى التعدّديّة هو عنوان ديناميكيّة الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة التي تسري في عروقها المتناقضات في تآزر وتنافر. والتي فيها تعصف السيرورة بالسلب والمادة ذات البعد الواحد والنسبي من ناحية وتقصف الصيرورة الثّبات والأوّل من ناحية أخرى. ومن ذلك، تبدو الجدليّة الأدرنيّة بعثا للتناقضات من جرّاء فعل السّلب وممارسة النّقد. ولا شكّ في أنّها ليست مجرّد قراءة جديدة لدفاتر تاريخ الفكر الفلسفي. ولا يطمح أدرنو في جدليَته من خلال النقد إلى الهدم وتأسيس نظريّة جديدة بل لعلّه كان يمزّق بشدّة كل أشكال الكليانيّة ويحطّم بحدّة كل الأطياف الإيديولوجيّة. لذلك، كانت لحظة تعميم مبدإ التبادل في الحياة الملموسة تدفع الفيلسوف إلى تحليل العلاقات والتصوُرات الاجتماعيّة من خلال اعتبارها أشياء وليست ذوات. يؤدي هذا التمييز إلى إعطاء أدرنو “الأولويّة للموضوع”. وعليه، إنّ ما يبيِّن تميُز الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” عن مثاليّة كنط وهیغل هو إصرارها على “أولويّة الموضوع”. فمنذ لحظة الإقرار بهذه الأوليّة، قام أدرنو بشكل علني ومباشر بنقد الادّعاءات المتمثلة بداية في الذاتيّة المطلقة والنهائيّة والتّأسيسيّة. وفي معرض نقده لا يفوته التأكيد بوُجوب اتخاذ الموضوعيّة كموْقف حازم غير مساوِم عليه، وذلك بسبب أنّ التناول الموضوعي لا يتم إلا بقرار من قبل صاحب الذات، ولأنّ المتناول تاريخي وفي تغيُر محتمل. وإنّ ما يعنيه مؤلف كتاب الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” هنا من “أسبقيّة الموضوع”، أي عدم اختزال الموضوع في أيّ إدراك مفاهيمي شامل، هو طريقة لتصحيح الاختزال الذاتي إلى المفاهيم التي من خلالها نفكر في شيء ما. وهذا ما يعطيها طابعا ماديا. فـ”بالمرور إلى أسبقيّة الموضوع تصبح الجدليّة ماديّة”[38]. وفي السياق عينه، إنّ الطريق الوحيد الذي توَخّاه أدرنو في سيْره نحو “أوْلويّة الموضوع” في فضاء “الميميزيس” هو التناقض. وذلك عبر الوعي المستمر لحالة اللاهویّة تحت مظلة الهويّة. بمعنى إنّ التناقض هو الطريق الأوْحد لكسرِ جدار “نظريّة التطابق”. ووفقا لما تمّ ذكره فإنّ نقد المطابقة من قبل الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” له أساسه في التناقض الذاتي للهويّة نفسها. لذلك، أكّد أدرنو أنّ في اللاهويّة يتحرّك التناقض. لانّ الهويّة هي الانحراف عن بلوغ الحقيقة. وتشير الجدليّة هنا إلى فحص الفكر من تلقاء نفسه وهو ما يفضي حتما إلى انفجار الهويّة الكليّة: أي في اللحظة التي تعتقد أنّها مطمئنة. غير أنّ هذا التأمل الذاتي للفكر يؤدي ضرورة إلى التناقض بيْن الذات والموضوع المرتبط به. فالجدليّة هي ادراك دقيق لللاهويّة. والتناقض بين الذات والموضوع الذي اخترق الفكر يعيق بالضرورة سيْر طوفان الهويّة ويخرّب أعمدة المصالحة الزائفة ويحرّر اللاهويّة عبر سلب الطابع المنطقي المتجانس. فمن الناحيَة الجدليّة، نلاحظ أنّ معرفة اللاتطابق هي أيضًا من حيث أنّ هذا هو بالضبط الذي يحدد أكثر وبشكل مختلف عن التفكير في الهويّة. إنّه يعني ماهية الشيء بيْنما يقول التفكير في الهويّة ما يقع تحته الشيء ويُشكل منه مثالا أو ممثّلا. وبالتالي ماهو ليس هو نفسه”[39] فيتمتّع كل طرف بسمات نقيضه، ويتتبّعه ليبحث عن الفارق ويلتفت نحو المبهم حتى يدرك محتوى الحقيقة. هذا الفارق والمتمايز هو عنوان وبرهان ديناميكيّة الجدليّة. من خلال هذه الحركيَّة “تُحرك الجدليّة شحنة ماهو صلب[40] فتسري في عروقه المتناقضات في وئام وسلام. وقد يلحظُ من تصفّح كتاب “نظريّة استيطيقيّة”، مثلا، أدلّة على هذا الإقرار. كالفن الذي لا يكون ألا بقيْمومته الذاتيّة وبفعله الاجتماعي في آن واحد. أي أنّ “الطابع المزدوَج للفن بوَصفه قائما بذاته وواقعة اجتماعيّة، ينبسط بلا انقطاع، على كامل منطقة قيْمومته الذاتيّة”[41]. في هذا المقام، انزلقت بفكر أدرنو مسألة “الصيْرورة” فدفعته إلى الإقرار بأنّ الجدليّة لا تقوم الاّ بقانون الحركة إنّما هو قول أبعد ما يكون عن الإثباتي التقريري وأقرب ما يكون للنقد. لذلك، لا داعي للخوْف على الجدليّة من عار امتلاك فكرة التناقض الموْضوعي الثابت لأنّه لا شيء منفرد يجد السلام في الكل غير السالم[42]. بهذا الشكل، يتّصف التّناقض بالتّعددّ ليكون إمارة التّشظّي والجزئي. إذن، إنّ نقد الهويّة الذي تحمله الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” يهدف إلى استيعاب الذات للموْضوع. أي إنّ اللحظة الذاتيّة، إذا جاز التعبير، محاطة باللحظة الموضوعيّة، كما هي مفروضة على الذات وتقيّدها، فهي بحد ذاتها موْضوعية[43]. في هذا الصدد، وبفضل معارضة أسطورة التطابق والتماثل، يبقى الموضوع بالنسبة لأدرنو في الجدليّة الذي يتوَسط فيه الذات ذو أولويّة. وبعبارة أدق: “إنّ النقد الذي يتطوّر ضد الهويّة يتلمس طريقه إلى غلبة الموضوع[44]. بمعنى أنّ اللامتطابق عند أدرنو ينتهي إلى “أوّلوية للموضوع”، وإن كانت ذات طبيعة مختلفة عن “أوّلوية الموضوع” الكلاسيكيّة لأنّها تتحقق عبر المفهوم، أي مختلفة عن الوعي الذي يفترض نموذج التطابق الذي تحاول الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” الخروج من قوقعته بالنقد. معتبرا أنّ انحداره، الوعي، “هو نتاج افتقاره للتأمل الذاتي”[45]. وهذا ما يجعل منه في المجمل وعيا زائفا. إذ “إنّ الوعي الزائف يعتبر غير قابل للتحقيق على أنّه قابل للتحقيق. بالإضافة إلى إمكانيَة تحقيق الاحتياجات وهو ما يُنكر عليه[46]. لذلك شدّد أدرنو على قمعه ودليل ذلك قوله: “يجب أن يسعى هذا الوعي أكثر فأكثر إلى قمعه، لأن الحاجة وحدها لا تستطيع تحقيقها[47]. عصارة القول، أشار الفكر الهوَوي إلى واقع التطابق بين الذات والموضوع الذي قابله أدرنو بسهام النقد. وهكذا يمكن إعادة تحقيق الجدليّة بوصفها شكل من أشكال النقد لكل ما هو مطروح وكأنها بذلك تتنكّر للجدليات الفلسفيّة الصّارمة والنظريات الدغمائيّة، وتكشف اخفاقات الرأسماليّة التي بررها مبدأ التطابق الذي اعتمد، بدوره وبشكل مشترك، على المماثلة بين التشيؤ والتبادل. لذلك، كانت الإضافة النقديّة الأدرنيّة لمبدإ التطابق في تحليل التبادل تجعل من الممكن تجاوز المنطق الاقتصادي البحت للتناسب بين السلع، والجهد الذي وفّره مبدأ التطابق جعل من الممكن الكشف عن منطق منقوش في المجالات الإيديولوجيّة والاجتماعيّة والسياسيّة؛ فتصبح قضيّة التطابق في تبادل السلع قضيّة ايديولوجيّة. لهذا تصوّر “باك مورس” هدف الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” في قوله: “حتى ذاك التخفي للوعي، فإن الثقافة المصنعة، عندما تنعكس بشكل نقدي، قد تعزز الوعي الثوري، فقط لأنّ إيديولوجيّة المساواة والهويّة التي ارتكبتها سلطة الضوء على حقيقة الاختلافات الطبقيّة ليس أكثر من “اغتصاب عار””.[48] لذلك، نبذ أدرنو الاهتمام المفرط بـ”الهويّة” واعتبر “اللاهويّة هي غرض الهويّة وما يجب انقاذه فيها. فخطأ التفكير التقليدي هو اعتبار الهويّة هدفه”[49] دون الاعتقاد بأنّ هذا الفكر يمكن زحزحته. وأهميَته ستبقى محفوظة أبد الدهر وأنّه بفضله شيّدت جميع النظريات عن الجدليّة. ويعني ذلك أن هدف الجدليّة لا يكمن في تطهير التفكير من تحديد الهويّة الخاطئ وإنّما يكمن في التعرف على عدم كفاية أي تحديد للهويّة – هيغل وماركس – تمّ نقله إلى التطبيق العملي التاريخي. هذا هو السبب في أننا يجب أن نفكر في الأمر مرة أخرى من الناحية النظريّة بدلا من جعل الفكر ينحني بشكل غير عقلاني لأسبقيّة التطبيق العملي[50]. خاصّة وأنّ جدليّة أدرنو سلبيّة نقديّة تطرح قضايا متصدّعة وتنشد إلتآم شقوقها. لهذا يظلّ النقد أفقا مفتوحا للتّمرّد والثّورة، وفسحة ونسيج للمقاومة. وهكذا كانت جدليّة أدرنو مغايرة ومغايرتها استقفاءٌ لرجاءٍ في الحلول للمشكلات المبهمة. الخلاصة: الـ”جدليّة’ الـ”سلبيّة” بوَصفها نقدا وفقا لما تمّ رصده في اللحظة النّظريّة والعمليّة، تعني الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” تحرير اللامتطابق من قبضة التطابق وذلك بواسطة التناقض. لذلك، كانت المسألة كلّها تتعلّق بنقدٍ جدلي للفكر الهوَوي بواسطة مبدإ الفرق الذي يفيد التمايز والتنافر. وعليه، من خلال التناقض “تتّجه الجدليّة نحو الفرق”[51] لتصبح بذلك الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” فلسفة اللاتطابق. وفي هذا السّياق أكد أدرنو آنّ التّفكير الفلسفي هو تفكير سالب يكون بواسطة الميميزيس. لهذا فإنّه “في حالة عدم التوْفيق يُنظر إلى اللاهوية على أنّها سلبيّة”[52]. علاوة على ذلك، فإنّ التناقض قد نشأ من مقاومة اللامطابقة لعملية التماثل: أي لعملية المنطق لذلك يتم تعريف التناقض على أنّه معرضة الأقوال مع الجميع”[53]، وعلى أنّه موْجود في كل مكان كممارسة في المسابقة الجدليّة[54]. التناقض هو مفجّر الجدل من الداخل إنّه التفجُر من باطن الذات والموْضوع إنّه كشف للمتحجب ورحلة للداخل والأعماق والثوْري الحق هو ذاك الذي فجّر المتناقضات هو اللاهويّة تحت تأثير القانون الذي يؤثر أيضا على اللامتطابق[55] ويمثل مؤشر عدم صحّة الهويّة ومؤشر استيعاب المفهوم في المفهوم[56]. من ناحية أخرى يشير اللاتطابق أو اللاهوية إلى ما ينطلق من عقلانيّة لا يمكن اختزالها إلى العقلانيّة السائدة يعبر عن طريق هذا الاختلاف عن امكانية تنظيم آخر للعالم. من عقلانيّة أخرى لحقيقة أخرى لا يمكن تجسيدها وتثبيتها تاريخيا. لذلك كان “مجمل التناقض ليس سوى كذب التطابق التام[57]. فالتناقض هو حركة لا تميل نحو الهويّة ومنطقه هو منطق التنافر. وهذا ما يفيد أنّ انكار الهوية بين الواقعي والعقلي وبين الفرد والكلي ينحو إلى الإقرار بالتنافر. فكان بهذا الاقتراح الاقرار أنّ “الهويّة وتناقض التفكير متحدان[58] بشكل سلبي وغير متطابق. وعليه، إنّ اللاتطابق هو الذي يتجلى على أساس أنّه ردّ اعتبار للاّهوية وللسالب لأن “الجزء الداخلي من اللاتطابق هو علاقته بما ليس هو نفسه وما ينكره لهويته الثابتة الجامدة مع نفسه.[59] من هنا، نخلُصُ إلى فهم أنّ أهميّة مشروع أدرنو تكمن في مفارقته الفكريّة التي تقول أنّ الهويّة تتحقق في أقصى حد لانبثاق اللاهويّة. وهذا ما بتطلب استراتيجيّة معقّدة فهي ليست مجرد قلب فكري بل هو تفحص كل مفهوم حتى يتحرك بأمر السلب فتصير هويته غير مماثلة لذاته وذلك بالاعتماد على عنصريْ التناقض واللاتطابق اللذان كانا المركب الرّائد من الجدلية وظلا سمة مميزة لمعظم المفاهيم التي ولدت منهما. وبناءً عليه كانت الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” تحرير لللاّهويّة من قبضة الهويّة وذلك بواسطة المفهوم. لهذا كانت تندرج في صيْرورتها وتصيّرها الذي لا ينتهي ولا يُحدّ ولا يُطمس. إنّها جدليّة مفتوحة تستنهض المتناقضات التي ترسمها همزة وصل بيْن المفهوم والموضوع. المراجع المراجع العربيّة والمعرّبة تيودور آدرنو، نظرية استيطيقية، ترجمة وتقديم وتعليق: ناجي العونلي، منشورت الجمل، بيروت، 2017، الحيدري إبراهيم، النظرية النقدية ودياليكتيك عصر التنوير، دراسات فلسفية، العددان 9 و10، بيروت، تموز (يوليو) 1989. رمضان بسطويسي محمد، علم الجمال لدى مدرسة فرنكفورت (آدرنو نموذجا)، القاهرة مطبوعات نصوص 1993 ماركوز نوبري، الجدلية السلبية لثيودور آدرنو – أنطولوجيا الدولة الطائفة، دار الطباعة للنشر، بيروتن 1988. المراجع غير العربيّة: Adorno, T.W, Dialectique négative, Collège de philosophie, Paris, Payot-Rivages, 1978. Theodor W.Adorno-Max Horkheimer, , Dialectique de la raison : fragments philosophiques, traduit par Eliane Kaufholz, Paris, Gallimard, 1983. Claire Pagès, Qu’est ce que la dialectique ?, Paris, Vrin, Collection Chemins philosophiques, avril 2015, 128 pages, ISBN 978-2-7116-2620-5. Fabian Freyenhagen, Adorno ‘s pratical philosophiy: Living less wrongly, Cambridge, Cambridge University press, 2013. Fredric Jameson, Late Marxism: Adorno or the persistence ofthe dialectic, London and New York: Verso Books, 1990. Juliette Lemaire. Contradiction et topos dans le syllogisme dialectique. Joël Biard; Fosca MarianiZini. Les lieux de l’argumentation. Histoire du syllogisme topique d’Aristote à Leibniz, Paris: Presses universitaires de Rennes, 2016 Marc jimenez rationalité et négativité dans la pensée adornienne, du colloque Adorno et l’école de fancfort, 6 déscembre 2003, l’université de Tunis faculté des sciences humaines et sociales N Tertulian, Lukacs, Adorno et la philosophie classique allemande », in archives de philosphie, 47, 1984 Susan Buck-Morss, The origin of negative dialectics Theodor W. Adorno, Walter Benjamin, and the Frankfurt Institute, Harvester Press, Hassocks, England, 1977. Pierre-François Noppen l’objet de la théorie dialectique le débat entre Max Horkheimer et Theodor.W Adorno Archives de Philosophie, vol. 75, no. 3, juillet-septembre 2012, pp. 331-356. op, lien : https://www.jstor.org/stable/43038821. Pierre V.Zima, la négation esthétique le sujet le beau et ke sublime de mallarmé et Valéry à Adorno et Lyotard, Paris, Éditions L’Harmattan, Collection Ouverture Philosophique, 2003. [1] Adorno, T.W, Dialectique négative, Collège de philosophie, Paris, Payot-Rivages, 1978. p, 120. [2] “إنّ الجدليّة لا هي منهج فحسب ولا مجرد شيء في الواقع بالمعنى الساذج للمفهوم. وهي “ليست جدلا ولا مجادلة (وما أشنعه خلطا)، أي أنّها ليست مسألة خطاب أو قول أو حجاج. إنّها طريقة التفكير نفسه حين يخرج عن قلك الهويّة والتّطابق ويتغلغل في دوّامة الموضوعيّة التاريخيّة التّي تقوم في تطوّرها على التّعارض والتّناقض (تيودور آدرنو، نظرية استيطيقية، ترجمة وتقديم وتعليق: ناجي العونلي، منشورت الجمل، بيروت، 2017، مثدمة المترجم، ص 10). [3] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 18. [4] إنّ التّمييز الصّارم بيْن الذات والموضوع يمنع الاعتراف بـ”الوساطة” بيْن أحدهما والآخر، متجاهلا قيمومة كلاٌ منهما. بهذه الطريقة، يتألّف جهد الفلسفة الهيغلية من الوصول إلى درجة مفاهيميّة يتمّ فيها حلّ التّناقض الدّاخلي والخارجي لكِلا القطبيْن وعلى جميع مستويات تطوُر الروح في الاعتراف بالهويّة المطلقة بين الذات المتطابق والموضوع اللامتطابق. هذه الدرجة المفاهيميّة هي تلك المرحلة الأخيرة من الروح المطلق الذي يعرف نفسه بوصفه موضوع لمعرفتها. وهذا هو المعنى النّهائي للكليّة أو التطابق المطلق بين الذات والموضوع التي لا تصل إليّها الروح إلا في التفكير في نفسها، بعد أن عزلت نفسها في التاريخ وتشكلت بعقلانيَة العالم الموْضوعي. [5] رمضان بسطوسي محمد علم الجمال لدى مدرسة فرنكفورت (أدرنو نموذجا) ط1 القاهرة مطبوعات النصوص 1993 ص 47. [6] والـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” لا تحتاج إلى الخوف من تُهمة الهوَس بمسألة الهويّة. خاصة وأنّه لا يوجد شيء ثابت في كلٍّ غير ثابت. لذلك، إنّ السلب هو محاولة لعدم صياغة هويّة كليّة، ومهمّته هي النقد، وفي قيامه بذلك ستتجلى الحقيقة. وكما هو معلوم، أنّ جدل السلب قد خرج من داخل فلسفة الهويّة من ثمّ حاول تجاوزه عن طريق السلب أيضا[6]. اعتبر أدرنو أنّ هيغل قد حقّ قوله في مبدأ السلب لكن من جهة أخرى حقّق فيه. بمعنى أنّه قد استفاد من مفهوم السلب الدي أنتجه الجدل الهيغلي، وفي الآن نفسه، اعتمده كسلاح لتقوِيض نظريّة التطابق. في هذا النموذج من الـ”جدليّة” الـ”سلبيّة” تبدو الكليّة باعتبارها ذريعة للهويّة ليس فقط كاذبة بالمعنى المعياري ولكن حقيقيّة بالمعنى النظري، إنها خاطئة من الناحية المعياريّة والنظريّة. في المقابل تعمل السلبيّة في وظيفتها ليس لإظهار التعارض الظاهري لعنصريْن متّصليْن كما كان الحال مع “جدليّة التنوِير” ولكن لإثبات المعارضة الفعّالة في ظل الهويّة الظاهرة بينهما. وهذا ما يفيد أنّ “هذا السلب وهذا الخطأ هما اللّذان يكوّنان، مع ذلك ضروريا، في نفس الوقت مسرح الجدليّة” (Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 139). [7] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p 18. [8] تظلّ النظريّة النقديّة في الأساس فكرا جدليا، لكن بشرط أن تُفهم الجدليّة على معنى “الوعي الصارم باللاتطابق الفعلي. ومن هنا فإنّ مبدأ اللاتطابق وُلد من رحم نظريّة الهويّة. لذلك فإنّ كليّة المفهوم من منظور أدرنو هي ما يجب كسره بواسطة السلب. في هذا الخط من التفكير يُفهم لماذا لا ينتج، من منظور أدرني، عن انكار السلب شيئا إيجابيا. فالهويّة الكليّة هي بالفعل سلب الهويّة الذي يصبح تحررا أو على الأقل وعي بالسلبي ووعي باللامتطابق. باختصار، إنّ سلب السلب يعادل في النهاية انكار الهويّة الكليّة لأنّ الهويّة نفسها هي الشكل الأساسي للسلب. وهكذا، ساهم السلب في نقد فلسفة الهويّة. إذ قام بإبراز طابع عقلانيّة الهويّة، وبيَن أنّ التفكير الإيجابي يقتل الموضوع، بشكل يكون العقل معه قاتلا للحياة، ووضّح أنّ البنيات الموجودة في الأشياء لا تنتج عن الذات الإنسانيّة التي تفكر وتراقب، بل هي موْجودة موْضوعيا، ومنه، أنكر أدرنو الهويّة التي تحقّقت بطريقة إيجابيّة، وذهب إلى حد اعتبار أنّها تحّققت سلباً. [9] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 131. [10] “الميميزيس” مفهوم يختلف من وجهة نظر أدرنو عن معنى “المحاكاة”. إنّها لا تعني التقليد والانعكاس مثل ما تقوم بذلك المحاكاة، بل تعني التعبير والعرض والتمثيل؛ أي القدرة على أخذ الأفكار من سياقاتها المُقوْلبة من ثمّ يعيد تشكيلها في “شذرات” حول موضوع ما، فتستطيع الذات الدخول إلى الديناميكيّة التاريخيّة المختبئة خلف الأشياء، والتعبير عن نفسها. [11] رمضان بسطويسي محمد، علم الجمال لدى مدرسة فرنكفورت (آدرنو نموذجا)، المرجع نفسه، ص 49. [12] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 17. [13] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 18. [14] هنا تصور أدرنو اللغة باعتبارها شكلًا مميزًا لوساطة المفهوم والموضوع. إنّها ليست أداة يمكن للمرء أن يتخلّص منها، ولكنها تمثل مكان ظهور الحقيقة وعنصر الجدليّة. وإذا كان التفكير يعني الحكم فإنّ هذا التصريح يعني قبل كل شيء تحديد الهُويّة. فقد ذهب أدؤنو إلى أنّ اللغة وفعل التفكير يكون لهما معنى فقط عبر نقدهما ويشيران داخليًا إلى الآخر. [15] Adorno, T.W. Dialectiquenégative, op, cit, p. 127. [16] يبدو أنّ تاريخ الفكر، عند أدرنو، هو تاريخ ملتبس نتيجة تزايد الشك بشأن أيّة مزاعم بالنفاذ إلى ما يقع خارج الفكر. لذلك، يصف الفكر، الذي يعتمد على هذه المزاعم، بالشاعريّة والخيال. فتحوّل الفكر نفسه إلى “سياق محايثة محضة” أو لنقُل “جٌوّانيّة محضة” لم يبق شيء خارجها. ومنه، تحوّل التنوير، عن طريق عمليّة العقلنة الجذريّة، إلى التفكير الأسطوري. وحتّى يتحاشى هذا التفكير تهمة الذاتيّة قام بتحديد مهمّته بنسخ ما هو موجود وحصر نفسه في الوقائع. ولكن الشكيّة التي نشأت بوصفها رد فعل مشروط بالتنوير قادته، عملياً، إلى الزّعْم بأنّ أيُ موضوع هو في الواقع مجرد تخيّل للذّات. إنّ القول بأنّه لا يوجد شيء يمكن أن يقف خارج الفكر حوّل العالم إلى قضيّة تحليليّة ضخمة. ومن ثمّ أصبح الفكر غير قادر على فهم ما يعتمد عليه، وغير قادر على تخيّل أنّه كلّياً غير كافٍ بذاته. والأهم من ذلك أنّ المظهر الغريب والعدائي للأشياء والآخرين ـ آخر الذاتيّة اللامتطابق ـ يجب أن يتحوّل إلى متطابق إذا كانت الذات يجب أن تسيطر على نفسها. ويعمل العقل الأداتي على تنظيم الأنا من خلال ضبط عقلاني أداتي مطلوب للسيْطرة على الآخر. إنّ تقدُم العقل الأداتي الذي يعمل على بقاء الذات يجب أن يعامل الآخر واللامتطابق إمّا بتحويله إلى متطابق وعقلاني مشابهاً لذاته، أو بتركه كما هو غريباً وعدائياً ولا عقلانياً، إذن، إن أي شيء يجب أن يخضع لعقل ذاتي ومحدد للهويّة. وهذا ما حوّل الفكر إلى “جوانيّة محضة” مبرّرَة تعجز عن فهم ما تعتمد عليه، كعجز المجتمع عن فهم ما يعتمد عليه. فيصبح المجتمع مفهوماً وغير مفهوم. [17] تيودور آدرنو نظرية استيطيقية، المصدر نفسه مقدنة المترجم ص 13. [18] ماركوز نوبري، الجدلية السلبية لثيودور آدرنو – أنطولوجيا الدولة الطائفة، دار الطباعة للنشر، بيروتن 1988، ص 175. [19] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p 18. [20] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p 20. [21] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p 18. [22]Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 148. [23] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 111. [24] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p 14. [25] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 121. [26] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p,p, 17-18. [27] Fredric Jameson, Late Marxism: Adorno or the persistence ofthe dialectic, London and New York: Verso Books, 1990, p.23. [28] يحدد ماركس شكلي قيمة السلعة في رأس المال. قيمة الاستخدام: “فائدة الشيء تجعله قيمة استخدام. لكن هذه الأداة ليست معلقة في الهواء. إنه مشروط بخصائص السلعة كجسد ولا يوجد بدون جسد. “(ص 40) قيمة التبادل:” تظهر القيمة التبادلية أولاً كعلاقة كمية ، كنسبة يتم فيها تبادل قيم الاستخدام لنوع معين بقيم استخدام نوع آخر ، وهي علاقة تتغير باستمرار حسب المكان والزمان “. (ص 41) [29] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p. 119. [30] Fabian Freyenhagen, Adorno’s pratical philosophiy: Living less wrongly, Cambridge, Cambridge University press, 2013, p. 35. [31] Adorno, T.W, Dialectique négative, op,cit, p. 120. [32] Pierre-François Noppen l’objet de la théorie dialectique le débat entre Max Horkheimer et Theodor.W Adorno Archives de Philosophie, vol. 75, no. 3, juillet-septembre 2012, pp. 331-356. op, lien : https://www.jstor.org/stable/43038821. [33] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 118. [34] Pierre-François Noppen l’objet de la théorie dialectique le débat entre Max Horkheimer et Theodor.W Adorno.. [35] Ibid. [36] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 79.. [37] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 121. [38] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 153. [39] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit 2001, p, 121-122. [40] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 38. [41] تيودور آدرنو نظرية استيطيقية المصدر نفسه، ص 29-30. [42] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 124. [43] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 144. [44] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 146. [45] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 121. [46] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 79. [47] Ibid. [48] Susan Buck-Morss, The origin of negative dialectics Theodor W. Adorno, Walter Benjamin, and the Frankfurt Institute, Harvester Press, Hassocks, England, 1977, p. 187. [49] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 121. [50] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 118. [51] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p,p, 124-125. [52]Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 32. [53] Juliette Lemaire. Contradiction et topos dans le syllogisme dialectique. Joël Biard; Fosca MarianiZini. Les lieux de l’argumentation. Histoire du syllogisme topique d’Aristote à Leibniz, Paris: Presses universitaires de Rennes, 2016, p, 1. [54] Ibid. [55] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 13. [56] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p 12. [57] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p 13. [58] Ibid. [59] Adorno, T.W, Dialectique négative, op, cit, p, 132. الباحثة فاطمة بلحاج لطيّف