الصفحة الرئيسية مقال فكري وفلسفي فاطمة بلحاج لطيّف تقدّم دراسة فلسفية بعنوان “لا بديهيّة الفن!!”

فاطمة بلحاج لطيّف تقدّم دراسة فلسفية بعنوان “لا بديهيّة الفن!!”

7 مشاهدات 38 دقائق اقرأ

ملخص المقال

يبرز الفنّ في الوقت الراهن بوصفه شكلا ظاهريّا يعرى من أيّة وظيفة نقديّة. وهو في حقيقة الأمر، لا يخرج عن أمرين: إمّا أنّه خادم لقوى إيديولوجية: سياسية واقتصادية، أو أنّه كاشف لظواهر اجتماعية سائدة بقدر ما هو نتاج لها. فيصبح الأثر الفنّي بمثابة “شكل ظاهري” لظاهرة ما. وعلى هذا الأساس، يكون الفنّ، حسب ما جاء في نصّ “نظريّة استيطيقيّة” لتيودور ف.أدرنو، مسألة محدِّدة أكثر من كونه مسألة محدَّدة أفضت إلى “لا بداهيَته”.

نص الدراسة:

           يكمن المشكل، الأكثر إثارة للجدل، لدى تيودور ف.أدرنو في فعل تصيّر “الفن غيْر بيّنٍ بذاته”[1]. وهو مشكل أعلن عنه منذ أوّل جمل كتابه “نظريّة استيطيقيّة”. ولعلّه لمّا ضبط الإشكال من البداية، أراد أنْ يُبيّن أنّ هذا المشكل هو أخطر مشكلات “الفن” وأكثرها تعقيدا. وأنْ يَضع حدّا لسيَلان مقولة “النّهايات” أوْ “الموْت”، كمقولة “موت الفن”، في نهر الفكر الفلسفي العابر لكلّ المجالات بما في ذلك المجال الثقافي. ولعلّ أفضل طريقة – حسب أدرنو – لمواجهة هذا الوَباء، الذي ينخر جسد “الفن”، تكمن في إظهار تقيُّحات جروحه وتوْفير ترياق مضادٍ لها.

          وضمن هذا المنظور، فإنّ المتأمّل في “نظريّة استيطيقيّة” يلاحظ ثراءها بما تنزع إليْه من تحليلٍ للأعمال الفلسفيّة في مجال الفنّ ولأمّهات الآثار الفنّيَة. وممّا بدا لنا، فإنّ أدرنو قد رصد ظهور “الحركات الفنّيَة” التي مثّلت “ثوْرة فنّيَة” منذ عام 1910. فقد تزايَدت أعداد وفيرة من الآثار الفنّيَة التي اتّخذت منحى مغايرا عن المنحى التقليدي. واستطاع الفنان أن يعتمد على آليات تختلف تماما عمّا كان دارجا في القديم. ويبدو أنّ ذلك كان سببا في منحه حريَة لم يظفر بها من قبل. لقد أصبح حرا في تناوُل أيّ موْضوع يعمل عليْه في أثره الفنّي. وصار حرّا أيْضا في التّمرّد على التّقنيات الفنّيَة القديمة. فنتج عن ذلك اكتشافه لتقنيَات جديدة مغايِرة ساعدته في فعله الإبداعي.

           لكن[2]، على الرّغم ممّا اكتسبه الفنّان خاصّة والفنّ الحديث عامّة من حريّة، فإنّ شكوكًا عديدة أحاطت بالفن فجعلته غيْر بيّن بذاته. ويصل ذلك إلى حدّ أنّكـ”لو ألقيْت على الفنّ نظرةٌ من كوْكب آخَر، لبدا لها كلّ شيء مظلما ظلاما دامسا”[3]. والملاحظ من هذا، أنّ الحريَة التي ظفر بها الفنان كانت “كاذبة”. ويُعزى ذلك إلى أنّ “الحريَة المطلقة في الفنّ التي تبقى حريَةً في ما هو جزئيّ، إنّما تتناقض مع الوَضع الدائم لانعدام الحريَة ضمن الكلّ”[4]. فترتّب عن ذلك وضع الفنّ موْضع مساءلة: أيْ “تصيّر الفن غيْر بيّن”[5].

           حدّد أدرنو في “نظريّة استيطيقيّة” “لا بديهيّة الفنّ” في مستويَيْن: يتجلّى الأوّل في معضلة العلاقة بيْن “الفنّ والمفهوم الفلسفيّ” النّاتج عن عجز التصوُرات الاستيطيقيّة التّقليديّة عن إدراك “مغزى حقيقة” الفن. ويتمثّل الثاني في “فعل التّشيِئة” الذي تعرّض إليْه “الفن” بفعل أيادي “الثقافة المصنّعة”. بهذا الشّكل، يكون “ثمة عنصر مشترك بيْن الفن والنظريَة، هوَ أنّهما في تعيّنِيّتِهما المحايثة، نقد راديكالي… صار إلى شيء غيْر قابل للفهم وغير بيّنٍ بنفسه”[6]..

       ∗ ففي المستوى الأوّل، عمل أدرنو على تحليل “السّقف النّظري” لمشكل “لا بديهيّة الفنّ”. لذلك إنّ القوْل “لقد صار من البيّن بنفسه أنّه لم يعد شيءٌ في ما يتعلّق بالفنّ، بيّنا بنفسه وبديهيّا، لا الفنّ في حدّ ذاته، ولا علاقته بالكلّ، ولا حتّى حقّه في الوجود”[7] ينسف جميع ما كانت تستند إليْه الاستيطيقا الحديثة في معظم تشكُّلاتها النظريّة نسفا عجيبا. ويتأتّى في نظرنا من عجز النظريات الاستيطيقيّة على فضّ المشكل القائم بيْن “الفن والمفهوم”. و لعلّ انبثاق هذا المشكل يعود إلى إعلان كنط تأسيس نظريَته الاستيطيقيّة خارج دائرة المفهوم. والمعنى من ذلك إنّ كنط قد شيّد معماريَته الاستيطيقيّة “الشّكليّة المحض” على ربوَة “الذّوْق الاستيطيقي” في ضواحي “الحسّ الخام” بعيدة عن كل نهج يؤدّي إلى “الحقيقة”. من هنا، يكون “الذّوْق” ملكة كلّيّة تشترط رأسا “الحس المشترك” الذي لا يرجع للموْضوع بل للذات التي لا تعني الشّخصي و”لهذا ليْس بوِسعنا القوْل: إنّ لكلّ إنسان ذوْقه الخاص”[8]. فهذه ا”لكلّيَة الذّاتيّة” التي يُشترط بها “الحكم الاستيطيقي”[9] لا يمكن أن تتأتّى من رحم المفهوم لأنّها تُحلّق خارج فضاء العقل: أي “إنّ هذا العموم لا يمكن أن ينجم عن مفاهيم”[10]. وهكذا، فإنّ التّفكير الاستيطيقي مع كنط، لا يُوَقّع على انتسابه للحظة المفهوم، ولا يندمج في مسار البحث عن الحقيقة، بل يعالج مسألة “الحكم على الذّوْق”.

          ويبدو أنّ تباعد الاستيطيقي عن الحقيقة، النّاجم عن حدث “التّخارج” من فيْحاء “المفهوم”؛ قد مثّل المناخ الملائم لانبثاق نظريّة هيغل الاستيطيقيّة التي تفكّرت “الفن” في دائرة “المعالجة العلميّة”. وهنا يقول هيغل إنّ “الفنّ يستحقّ هو أيْضا معالجة علميّة”[11]. بل إنّه يُشدّد على ضرورة الانطلاق في هذه المعالجة من “المفهوم”[12]. وهو تشديد نلتمسه خاصّة في الكلمات البيّنات التّاليَة: “عليْنا من حيْث نسعى إلى معالجته علميًا، أن نبدأ من مفهومه”[13]. وذلك لأنّ “المفهوم والأثر الفنّيّ يعرفان سويّة أنّهما الشّيء عيْنه”[14].

          ممّا تقدّم، نرى أنّ معضلة علاقة “الفن بالمفهوم” تتجلّى في المفارقة التي تُحدثها “استيطيقا كنط” المُنفصلة عن “المفهوم” و”استيطيقا هيغل” المتّصلة به. استنادا إلى ذلك، يُصبح منطلق معالجة هذه المعضلة من لحظة الحسم في انفصال أو اتّصال “الفن بالمفهوم”. في هذا المستوى الحاسم، يقدّم أدرنو رؤيَة نقديّة تتجاوَز حدود الاختيار بيْن من يذهب في اتّجاه الانفصال وبيْن من يذهب في اتّجاه الاتّصال.  لذلك، قام بنقد نظريّة كنط الاستيطيقيّة التي تهتم بمسألة “الحكم” على “الذّوْق”، لأنّها “استيطيقا شكلانيّة محضة” تفتقر للحقيقة وتسقط كل أشكال المحتوى. وأنهى نقده بوَصفها بالاستيطيقا “المطبخيّة”[15] ذات “الهويّة الذّاتيّة” والطبيعة الشكليّة: المتوَلّدتان عن “الذّوْق الاستيطيقي”. من ثمّة، قام أدرنو بنقد نظريّة هيغل الاستيطيقيّة التي اعتبرت أنّ الفنّ “أمرا قد ولّى و انتهى”[16]. لذلك، تجدر معالجته من ناحيَة “علميّة بحتة”، حتى صار “علم الفن هو في عصرنا حاجة متأكّدة أكثر ممّا في العصور التي كان يستأثر فيها الفن لذاته بالإشباع بوَصفه فنا. يدعونا إلى النظر والتّأمّل لا بهدف بعث الفن من جديد، بل للتّعرّف على الفن علميًا”[17]. وهو ما يشي بأنّ أدرنو عاب على هيغل انشغاله بإنشاء استيطيقا جديدة، بدلا من أن ينشغل بالتّفكير في سُبل “بعث الفن من جديد”. وبعبارة أخرى، إنّ “المبرهنات العلميّة التي يستند إليْها الفنّ كانت تنزع إلى الاندثار على مرّ تاريخه، فإنّه ما كانت الممارسات الفنيَة لتتطوّر من دون تلك المبرهنات بقدر ما أنّه في المقابل، لا يًمكن الاكتفاء بها وحدها لتفسير تلك الممارسات”[18]. فالفنّ لا بدّ له من أن يتفكّر نفسه ولا يبقى مجرّد مجال تشتغل عليْه الاستيطيقا، لأنّ “الفنّ ليْس في حاجة إلى أن يلزم نفسه بمعايِير تصُوغها الاستيطيقا، حين يقع ابطاله، بل هو في حاجة إلى تطوِير قوّة التّفكير ضمن الاستيطيقا، قوّة التّفكير التي لن يكون بمقدوره أن يستكملها بمفرده”[19].

           ما نلاحظه هو أنّ أدرنو لم يذهب في اتّجاه ترجيح تصوّر على آخر، بل نراه من ناحيَة ناقدا لهذه “الإمّيَة” لأنّ “الاستيطيقا الفلسفيّة تجد نفسها حبيسة إمّيَة قاتلة”[20]، ومن ناحيَة أخرى، رافضا فعل تبنّي الموْقف الانفصالي المحض والموْقف المفرط في فعل الاتّصال. ويُقرّ بأنّه “على الاستيطيقا اليوْم أن تتنزّل فيما أبعد من الخصومة بيْن كنط وهيغل من دون أن تختزلها في شميلة، ذلك أنّ مفهوم كنط في ما يُرضي من حيْث الشّكل، هو مفهوم رجعيّ بالنّظر إلى التّجربة الاستيطيقيّة، ولا يمكن بعثه من جديد. أمّا نظريَة هيغل في المضمون فتغرق في التّبسيط حدّ الفظاظة”[21].

           والطّريف في النّقد، لا يتجلّى في جنوح آدرنو إلى اعتناق تصوّر فلسفي معيّن، أو التأسيس لتصوّر جديد، أو تجاوز “المفهوم”؛ وإنّما في معالجة تشوّهات العلاقة بيْن “الفن والمفهوم”[22]. فأدرنو يعتبر أنّ الفن “يحتاج مثله مثل الفلسفة إلى المفاهيم”[23]. غيْر أنّ هذه المعالجة تستوْجب بداية تفكّرا في “مفهوم المفهوم الذي صار في حدّ ذاته إشكالا”[24]. ويُحتمل أنّ الوَعيَ بإشكال المفهوم كان دافعا لأدرنو إلى الإقرار بوُجوب التّفكّر في ماهو أبعد من المفهوم السّاكن، خاصّة أنّ القوّة المفهوميّة “لا تخضع إلى أيّ مفهوم أعلى ثابت ولا أيّ أقوال أو أحكام مأثورة”[25].

           وفي هذا الموْضع، بيّن أدرنو أنّ السّبيل الوَحيد لتحقيق هذه القوّة المفهوميّة، تكمن في إسقاط “المفهوم الثابت المتعالي”، الذي يساهم المفهوم في تصيّر الفن “لا بديهيا” إلى جانب كل من “الماهية” و”الأصل”[26]. وفي تحرير “اللاّمفهوم”. وعليه، إنّ العلاقة بيْن “الفن والمفهوم” تستقيم عندما يكون الفن “شبيها للمفهوم من دون مفهوم”[27]، أي أنّه يصبح شبيها باللاّمفهوم. والتّشابه هنا يعطي للفن القدرة على تحرير اللامفهوم من بوْتقة المفهوم الثابت، أي “إنّ الفن يحرّر في المفاهيم طبقتها غير المفهوميّة”[28]. غيْر أنّ هذه القدرة، التي تكون وليدة إنكار الفن للمفهوم الثابت، تُساهم في أن ينقلب الفن “ضدّ مفهومه، فيصيرَ من ثمّ مرتاباً فيه حتّى في نسْجه الأكثر باطنيَةً”[29]. وفي حالة نفور الفن من المفهوم الثابت، يلتقي بالمفهوم الخالي من هذا المفهوم الأصم. إنّه التقاء ينزّله في سياق “منطق الفن”، الذي يتنزّل خارج “منطق العلوم” عبر تحرّره من مبدأيْ “المفهوم” و”الحكم”. فضلا عن انبثاقه من رحم “استخلاص النتائج”[30]. وفي ختام هذا المنعرج التّحليلي لمقولة “لا بديهيّة الفن” في مستوى “صيْرورة الفن إلى عدم الفهم”، نشخّص ما انتهى إليْه مترجم “نظريّة استيطيقييّة”، ناجي العونلّي[31] في مقدّمة النّص: إنّ الفنّ “لم يَعد يَقبل الفهم، وإنّه بالتالي قد انقلب على مفهومه وطعن في “اللماذا استيطيقية” على حد سواء”[32]. وإذا كنّا قد توقّفنا عند أهمّ الجوانب التي عمل عليْها أدرنو في تحليله السّقف النّظري لمشكل لا بديهيّة الفنّ. فماهي إذن أهم النّقاط التي مثّلت علّة “لا بديهيّة الفنّ” في المستوى العملي؟

       ∗ في المستوى الثاني: حدّد أدرنو الفضاء الذي يُساهم في جعل الفن “لا بديهيًا”، وهو “الثقافة المصنّعة”[33]. وقد كشف أدرنو سلطة المؤسّسات أخضعت الفن لفعل “التّصنيع”. وربّما كان يحاول أن يسلّط الضّوء داخل “الثّقافة المصنّعة” على باقة باليَة مشكّلة من الآثار الفنّية المفعمة برائحة مجتمع لا إنسانيْ. ومن هذه الباقة تستوْقفنا دمامة اللّوْحات التّشكيليّة والمنحوتات الأثريّة؛ دمامة عبّر عنها آدرنو قائلا: “إنّ الفنادق الأمريكيّة تزيّن أروِقتها ساعةَ وجودٍ، بلوْحات تجريديّة على طريقة زيْد أو عمر، وأنّها لم تعد باهضة على المستوى الاجتماعي”[34]؛ كما يخنقنا عبق “الغوْغاء” النّتن الذي تنشره “موسيقى الجاز”. إنّها أكثر أنموذج يعبّر عن “الثّقافة المصنّعة” القائمة في “مبدإ الرّبح”، من خلال تسوِيق جملة من “الأشرطة” وتمويل “الألبومات” والدّعاية للحفلات… ولعلّ هذا ما دعا جيميناز إلى الحديث عن “دمقرطة الثقافة” وعن وضع الفن تحت وطأة قانون “إدارة الأعمال” و”التّسوِيق”[35].

           إنّ “الثّقافة الجماهيريّة” لا تتكوّن من أفراد مستقلّين، بل من ذوات مدفوعين، بتبعيَتهم الاقتصاديّة وبشروط العمل السّائدة في “المجتمعات الصناعيّة الليبراليّة”، إلى الرّكض خلف هذا النّسق. لقد تفطّن صاحب “نظريّة استيطيقيّة” لما تسعى إليْه “الثّقافة المصنّعة” في حثّها الجماهير على “الاندماج” في النّسق الاجتماعي العام. فمن أهدافها الدّفع بالجموع إلى فضاء لا يستطيعون فيه تحقيق استقلاليَتهم، حتى تحقّق مصالحها الخاصّة. فيصبح الفن، هنا، “كيتشا”: أيْ مجرّد “سلعة” تباع وتشترى تفتقر “الجوْدة” و”للمضمون” معا. على هذا النّحو، ترتبط شهرة أيّ أثر فنّي أو أيّ فنّان بما يصنعه الجمهور ويدفع ماله ثمنا له. وعلى هذا الأساس، يتحدّث آدرنو عن الأثر الفنّي بوَصفه “بضاعة” مطلقة أي مجرّد “شيء” بالدّلالة الماركسيّة. وهو ما جعله يخضع لآليات وبُنى اقتصاديّة واجتماعيّة استهلاكيّة سائدة.

          ومن بيْن الأمثلة على هذا التّصوّر ما آل إليْه الفنّ راهنا، حيْثُ أخضعت الحداثة الفنّ لقواعد ومعايِير “المُجتمع الرأسماليّ” القائمة على “التّسليَة”. وجعلت منها أهم شواغلها حتى يصبح الفنّ بهذا “أفول الشّعوب”. والمعنى من هذا هو أنّ “هذه الأوّليّة هي التي توَظّفها صناعة الثقافة وتستغلّها”[36]. ويبدو أنّ “الفن للفن” لم يعد “غايَة” في ذاته، بل أصبح في يَد “الثقافة المصنّعة” أداة براغماتيّة، تسخّره لخدمة “السوق”، وجعلت من “رعوَنة” الفنّ وسيلتها الأساسيّة التي تعتمدها لتحقيق الأرباح. بمعنى أنّه “طالما أنّ الفنّ يتطابق مع الحاجة القائمة اجتماعياً، فإنّه يكون قد صار بقدر معتبر إلى مجال يوجّهه الربحُ”[37].

           يبدو أنّ الحضور الطّاغي للعمل الفنّي بوَصفه شيْئا أو وسيلة في صلب “المجتمعات الصناعيّة” قد أجهض الفنّ حقيقته وجعله مزيّفا. فبابتلِاع “الثّقافة المصنّعة” مبادئ الفن وبنفخِها فيه روحها التّبادليّة الاحتكارية، تمّ انحلال الفنّ في “فعل الاستهلاك” الذي أدّى إلى غياب “الفنّ الحق”: الفن النّاقد التّحريري. لقد صار بيّنا أنّ الفنّ، داخل “الثقافة المصنّعة”، قد فقد قوّته بوَصفه أداة نقديّة هدفها كشف الحقائق وأصبح، على النّقيض، مجرّد “سلعة” ضمن باقي “السّلع المصنّعة”. استنادا إلى ذلك، يتّضح أنّ الفن قد تعرّض لهجمة شرسة من طرف العقلانيّة الاستهلاكيّة، فسلبت منه طبيعته وشوّهت صورته. وجعلته “غير بيّنا بذاته”.

           أدّى “التّشيّؤ” الذي يخضع له الفنّ في العصر الحديث خاصّة إلى تدخّل أصحاب السّلط في المجال الثقافي. وهو تدخّل يسجّل حضوره في “الكلشيات” والشعارات التي تقدم بعضا من الوُعود الزائفة لتحقيق سعادة المجتمع اللاإنساني. ويعني ذلك أدرنيّا أنّ الكليشيات “التي تتعلّق ببريقِ مؤالفة تتوسّع من الفنّ إلى الواقع”، ليست “كريهة فقط لأنّها تحاكي محاكاة ساخرةً، المفهوم المفخَّم للفنّ بواسطة عدّته البرجوازيّة، وتُصنّفه ضمن العروض الأسبوعيّة المسلّيَة. إنّها تلامس جرح الفنّ نفسه”[38]. وفي هذا الإطار، اعتبر أدرنو أنّ الفنّ، الذي يكون في يديْ كل من رجال السّاسة[39] والكنائس، إنّما يقدّم صورة زهريّة تعبّر عن جمال النّاس والأشياء، كما يجعل من كل أشكال الألم والأوجاع في يديْ القوى الميتافيزيقيّة. وهذا يدفع البشر إلى الاقتناع بواقعهم واعتباره أفضل ما يمكن أن يكون وأيّ محاوَلة للتغيِير هي محاوَلة للتدمير. فيخاف ويَتأقلم مع الوَضع القائم ويَكفّ عن المطالبة بوُجود اجتماعي أفضل. فـ”في ظلّ الرأسماليّة، كلّ ما هو في الفنّ تواطؤٌ مع الدارج الممجوج ضدّ الفنّ، ليْس مجرّدَ وظيفة للمصلحة التجاريّة التي تستغّل الجنسانيّة المشوَّهة، بل هو أيءضا الجانبُ المظلم للاستبطان المسيحي”[40]. وهنا تحديدا ينحصر الفنّ في بوْتقة “السّيادة”. ومن البيّن أنّ مفهوم “السّيادة” قد عرف تقلّبات في فضائها الخاص – وذلك اثر تغيّر مناخ ثنائيّة السيد والعبد الهيغليّة- من تسلّط الإنسان على الإنسان إلى تجبّر الشّيء على الإنسان. ومن ثمّة أصبح الفنّ أداة إيديولوجيّة من قبل أصحاب الجاه والنّفوذ الذين يشجّعون على انتشار “الكيتش”. وتكون “الشَّخْصَنَة الكاذبة في السياسة والسفسطةُ حول الإنسان في عصر اللاإنسانيَة، فتتطابقان مع الفرْدَنة الموْضوعيّة الكاذبة”[41]. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الفنّ صار المتّهم الأوّل في وقوع الكارثة، خاصّة وأنّه “في ظلّ هذا الوَضع القائم يكون الفن بمثابة الشاهد الرّئيسي على عقد قران العقلانيّة بالأداتيّة المهيْمنة المتسلّطة”[42]. ففي عمق فكرة الاستثمار الإيديُولوجي للفن، تتنزّل مرساة السّؤال الآتي: على ماذا تستند القوى الإيديولوجيّة في استثمارها للفن حتى تحقق مصالحها؟

           بالرّجوع إلى كتاب أدرنو “نظريّة استيطيقيّة” وكتابه “جدليّة التّنوير”، الذي يشاركه في كتابته ماكس هوركهايْمر، ندرك أنّ التّطوّر التّقني أو التّكنولوجيا قد صار في نطاق “الثّقافة المصنّعة” درعها وذراعها الملتفّ حوْل عنق الفنّ. فكيْف يمكن للتّقنيَة الموَظّفة من قِبل “الثّقافة المصنّعة” أن تجعل الفنّ مشيّء ومُسَيّس…. أي غير بديهي؟ من المحتمل أنّ أكثر ما يلاحظه المعربد في الصّفحات الأولى من “نظريّة استيطيقيّة” يمكن صياغته في الملاحظات التّاليَة:

           أوّلا، أكّد أدرنو أنّ “التّكنولوجيا الحديثة” قد خدمت الفنّ والفنّان، لكنّها لم تخدم الفنّ مِن ناحيَة إلاّ وقد ألحقت به الضّرر مِن الناحيَة الأخرى. لهذا السبب، نبّه بضرورة توَخّي الحذر من مخاطر التكنولوجيا “فلا ينبغي لأيّ امرئ أن يستسلم بسذاجة إلى الموْقف التكنولوجي الذي يعتنقه الفن المعاصر، وإلاّ سيعمل هذا الفن على أن يستبدل كلّيا الغاية، أي الأثر الفنّي، بالوَسيلة، أي بالطرائق والإجراءات التي بها أنتج”[43]. على هذا النّحو، فإن التكنولوجيا، وما تنتجه من كثرة النسخ، تفقد الآثار الفنيَة تفرّدها وبداهتها[44]. ويمكن إدراك هذا بسهولة لو قارنا بيْن الأداء الفنّي الذي يقدّمه ممثل مسرحي وأخر سينمائي؛ فالأوّل يسعى جاهدا من خلال اللقاء الحسّي المباشر بيْنما الثّاني تقدّمه الكاميرا من خلال فعل المونتاج التي تقدّم زوايا معيّنة. ولئن كان التّفرد مرتبطا بالحضور الحسّي، فإنّ السينما لا تحقق هذا. فيصير بديهيا “أنّ المفهوم الشامل للتحليل التكنولوجيّ لا يدرك فعلا روح الأثر الفنّي”[45].

           ثانيا، إنّ التّقنيات الحديثة ساهمت في انتشار الفنون الترفيهيّة بدلا من التّمتع بالفن الرفيع والتبصُّر العميق فيه. فهي تقوم على قواعد البهجة والدّهشة وتخدير العقول وفسخ للوَعي… هذا ما يفسّر كيْف أنّ “الدّهشة الصبيانيّة تلغي هي أيضا الآثار الفنّيَة”[46]. والمساهمة في انتشار الأثر الفني بيْن الناس، لم يؤدّ إلى وَضع الفنّ في مخزن الاستهلاك أي مخزن السّلع والبضائع فحسب، بل أدّت أيْضا إلى طمس أنواع من الفنون ودعم أنواع أخرى. وعلى سبيل المثال، فإنّ “اليومَ لم تندثر بعض الأشكال وحسب، بل اندثرت موادّ لا تحصى ولا تعدّ، [ومثاله] أنّ أدب الخيانة الزوْجيّة الذي يمتدّ على المرحلة الفكتوريّة من شطر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين، لم يعد من الممكن مزاولته بكيْفيّة مباشرة بعد انحلال الخليّة الأسريَة التي تنتمي إلى أوْج البرجوازيّة، وبعدَ تفكّك نظام الزواج الأحاديّ، فهذا الأدب ما عاد حاضرا إلاّ في الأدب المبتذل للمجلات المصوَّرة وبشكل متهافت و ممسوخ”[47].

           ثالثا، إنّ التقنيَة ساهمت في “دمقرطة الفن” وعملت على تسويقه وبهذا سقط فريسة سهلة بيْن مخالب المؤسسات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة لتوظّفه وفق إيديولوجيّتها الخاصّة. وفي هذه الحالة بالذات يصبح الفنّ أداة مخدرة للشعوب. بمعنى، إن التّزايد في أعداد المشاهدين “للسينما” مثلا ودرجة تأثيرها، بالإضافة “لوسائل الإعلام والاتّصال والدّعايَة”، قد جعلت السّياسة تنظر إلى الفن بعيْن يملؤها المكر والخداع والتّسلّط، مثل عيْن “النّظم الفاشيّة-الكليانيّة” التي تفرض على شعوبها تكريس عبادة الزعيم من خلال سيْطرتها على “وسائل الإعلام والاتصال”[48].

           أخيرا، إنّ “التكنولوجيا” قد تفرز جمالا زائلا وزائفا. فالجميل المتولّد عن التّقنيَة هو جميل خاوٍ بلا روح منفصل عن الذّات البشريّة؛ “الجميل من جهة ما هو مستقلّ عن الذات، أيْ من حيْث يعرض بوَصفه غيْرَ مصنوع على الإطلاق، هو تحديدا ما يقع تحت شُبهة وهَن الذاتيّ”[49]. على هذا النّحو، نفهم أنّ التّقنيات التّكنولوجيّة صارت بمثابة “ساعدي الذّات” الذي جرّد الأثر الفنّي من كل طابع حسّي حيَوِي. إنّ الاعتماد الكلّي على التّقنيَة، حسب أدرنو، إنّما يفقد الذات قوّتها وقيْمومتها. وهو ما يفيد أنّ “الذات فقد وَعتْ فقدان القوّة الذي كان حصل لها عن تكنولوجيا كانت قد حرّرتها”[50]. وعلى سبيل المثال، في “الفكر البرجوازي الذي يقوم على تشيِئة إنجازات الذات”[51]، تقوم التّكنولوجيا فيه بوَأْدِ الذات. ولا شكّ في أنّ أدرنو قد تفطّن إلى أنّ “الواقع من حيْث يُميتُ الذات، إنّما يموت هو نفسه”[52].

           وهكذا، مثّلت “الثقافة المصنّعة” بإنتاجها الزائف، العلّة الثّانيَة “لتصيّر الفنّ لا بديهيا”. وقد أسهم الوَضع البائس الذي حلّ بالفن، حلول السّقم في الجسم، في إعلان “موْت ممكن للفن”. بمعنى إنّ الفن، حسب أدرنو، يدخل مرحلة “إمكان الموْت” عندما يسقط في شرك “الثّقافة” التي تصنعها أجهزة التسلط والهيْمنة، أي عندما يتحوّل إلى سلعة استهلاكية وأفولا للشّعوب. وأقرّ أدرنو أنّ الفنّ الذي يكرّس لما هو قائم ليْس سوى “فن محكوم” عليْه بـ”إمكان الموْت”. في هذا الموْضع ناقش أدرنو نظريّة “موْت الفن” الهيغليّة[53] التي تميّز بيْن ثلاثة أشكال فنيَة خاضعة للتّطوّر التاريخي. تميِيزا ناجما عن طبيعة العلاقة بين “الشكل والمضمون”: وهي “الفن الرمزي” الذي يولي أهميَة “للشكل” أكثر من “”المضمون”. “إذًا، في الشكل الرمزي عند هيغل تكون الفكرة وصورتها الخارجيّة متمايِّزان، وهذا الشكل نراه في فن العمارة، ذلك أن المادة الحسيَة تتفوّق على الفكرة، وبالتالي فإنّ العلاقة أو التطابق بيْن الشكل والمضمون مفقود”[54]. و”الفن الكلاسيكي” الذي يقوم بإلْصاق “الشكل بالمضمون.”، والذي من خلاله “نرى ماهيَة الفن في الكلّيَة الحرّة النّاجمة عن الاتحاد الحميم بيْن المضمون والشكل المطابق له بقدر أو بآخر”[55]. وأخيرا “الفن الرّومنطيقي” الذي يولي أهميَة كبرى “للمضمون” لاعتقاده بأنّ “الشكل” قاصر على إدراك الفكرة. بمعنى إنّ “التطابق في الفكرة والشكل فهو مفقود. إذ يصبح الشكل عاجزا عن تجسيد الفكرة المتطوّرة والمنتصرة على الطبيعة، وتصبح المادة الخارجيّة في الفن مجرّد إشارة، أو مظهر للفكرة”[56].

           والمهم هنا هو أنّ هيغل، في المرحلة الأولى، كسر قشرة مرحلة “الفن الرمزي” ليلتمس تفاصيل صراع غموض “المضمون” ومجاز “الشكل”. ومن ثمّة تبيّن أسبقيّة “الشكل” عن “المضمون” في عالم “الفن الرمزي”. أمّا في المرحلة الثّانيَة، نزع هيغل عن “الفن الكلاسيكي” غشاءه، فسال الفن المتقوّم على “مبدأ التطابق” بيْن “الشكل والمضمون” خارج دائرة الإبداع ليَنصهر في ما هو مادي جسماني. وأمّا المرحلة الأخيرة فقد اقتحم فيها هيغل أسوار “الفن الرومنطيقي”، فلاحظ مكانة “الروح” الرفيعة التي تتجلّى من خلال “التّجريد” وليْس من خلال “المادّة”. لهذا كان “الدّين” هو من يُحدد المحتوى الفني في مرحلة “الفن الرومنطيقي”. وانتهي هيغل إلى الإقرار بقصور الفن عن إظهار حقيقة “الرّوح”. وهو ما استوْجب التّفكّر في أشكال أخرى تقوم بما لم يستطع الفن القيام به. لذلك اعتبر أنّ الفن قد “ولّى وانقضى”. فهذا “الحكمُ الذي أطلقتْه الفلسفة المثاليّة على الفنّ إنّما يعود إلى أنّه لم يكن بمقدورها أن تتحرّى صيغة الوَعد بالسعادة. فهي من حيْث كانت قد ردّت نظريّاً الأثرَ الفنّي إلى ما كان يرمز إليْه، إنّما ارتكبت إثما في حقّ الرّوح الذي في الأثر الفنّي نفسه. ذلك أنّ ما يعد به الرّوح ليْس هو رضا المتملِّي، بل هو حيّز اللحظة الحسّية في الفنّ”[57].

           إنّ “موْت الفن”، حسب هيغل، ناجم، إذن، عن قصور الفن عن إدراك المطلق. فهو أقل الصيَغ المعرفيّة كمالا. ولكن كيْف يُمكن للفن أن يزول وهو ما يزال حلقة وسطى تؤلّف بيْن الفكرة والمحسوس؟ كيْف للفن أن ينتهي وهو يعمل على تجسيد اللامنتهي؟ هذا الإشكال الكيْفي شغل فكر صاحب “نظريّة استيطيقيّة”، ودفعه ذلك إلى القوْل “إنَّ هيغل كان قد تفكّر الفنَّ بوَصفه إلى زوال وحمَله مع ذلك، على الروح المطلق، فهذا ما يتماشى مع الطابع الملتبِس لمنظومته”[58]. لذلك مثّل هذا الالتباس حجر الأساس لنظريّة “موْت ممكن للفن” التي تضع حدّا لنزيف “نظريّة النهايات”. ومن الملاجظ أنّه منذ لحظة دخول لفظ “الإمكان” قفص عبارة “موْت الفن” قد تخلخل عرش “الضروري” و”اليقيني”. أي أنّه تجلّى – الإمكان – في ما “ليْس بضروريّ أن يَكون، وأن لا يَكون”[59]: فيُصبح بذلك بمثابة “مفترق الطريق الذي يفصل بيْن مسافة الواجب ومسافة الممتنع، بمعنى إنّ المسافة التي بيْن الواجب والممتنع إذا لحظت وسطها على الصحة فهو أحق شيء وأوْلاه بطبيعة الممكن وكلما قربت هذه النقطة التي كانت وسطا إلى احد الطرفين كان ممكنا بشرط وتقييد. فقيل ممكن قريب من الواجب، ولكن بعيد عنه”[60]. تبعا لهذا يكون “الإمكان ألاستعدادي أو الوقوعي أمر موْجود من مقولة الكيْف، قائم بمحل الشيء، الذي ينسب إليْه، لا به، وغير لازم له”[61]. فماهي حيْثيَات هذه النّظريّة الثوْريّة؟

           إنّ “النّظريّة الثّوْريّة” ترى أنّ الاستيطيقا “لا يحقّ لها أن تلعب دوْر خطيب الجنازة”[62] لأنّها تستحي أن تكون مجرّد “ميتة”. وهي واعيَة بأنّ “هيغل لا يقول أنّ الفن قد مات، أوْ أنّ الفنّانين قد اختفوا، لكنّه توَقّف عن تمثيل الحضارات السابقة. هكذا يمكن القوْل إنّ الفن يبقى بالنسبة إليْنا- في الصورة التي نقلها إليْنا الإغريق، مثلا – شيْئا من الماضي”[63]. فمقولة “موْت الفن”، إذن، هي “حيلة الفيْلسوف في تخليص الفن من الحدود ومن كل أوْجه المحدوديّة التاريخيّة”[64]. فإنّ الحكم بنهاية شيء ما هو في الحقيقة “حكم كلباني”[65]. مثلا، بتقديم “الحكم بأنّه لم يعد هنالك حقّ في الوُجود، يستعيد الفنّ داخل العالم المسيّر، حقّه في الوجود الذي يكاد إنكاره نفسه يكون عمليّة تسيِير، ذلك أنّ من يلتمس إبطال الفنّ إنّما يغذّي وَهم أنّ التّغيير الجذري ممكن لا يحول دونه شيء”[66]. من هنا يتّضح أنّ مقولة “الفن صار جثّة” لا تعني البتّة أنّ الفن لم يعد موْجودا بل إنّ وُجوده أصبح مظنونا فيه. فـ”اللاّبديهيّة” هي “صيْحة استغاثة”، لا تقوم بدعوَتنا، فقط للتّفكّر في ملابساتها، ولا حتّى بزعزعة التّصوُرات التي أعلنت موْت الفن؛ بل تقوم بدعوَة الفن نفسه بـ”أن يتفكّر نفسَه”[67].

           ومنه، نستنتج أنّه طالما توجد عناصر في الطبيعة تصمد وتستمر في البقاء بعد صلاحيَتها سيتمّ تأجيل دفن جثة الفن لأنها وَلودٌ، و”طالما أنّ الفنّ يقدح في ما كان على مرّ السنّة القائمة، سيَضمن أساسه، فهو يتغيّر نوعيّاً ويصير من ناحيَته، إلى شيء آخرَ”[68]. بمعنى، إنّ هذا التّغيّر وهذه الصّيْرورة إنّما يشكّلان معا علامة على تحلّي الفن بقيمة الشجاعة والجرأة: أي جرأة المجازفة في “التّجريب”[69]. وفي هذا الموْضع ضرب أدرنو مثال “الفنون التّركيبيّة”، “من مثل ‘آرس نوفا’ ثمّ فنون هولندا، قد أدخلت على موسيقي العصر الوسيط الأوّل، مفاعيل يبدو أنّها قد تعدّت التصوُر الذاتيَّ للملحّنين. إنّ التركيبيّةَ التي كان الفنّانون المغتربون قد طالبوا بأن تكون موْسوطةً بخيالهم الذاتيّ، كانت جوْهريّة بالنسبة إلى تطوِير التقنيات الفنّيَة”[70]. من البيّن أنّ الآثار الفنّيَة تبقى على “قيْد الحياة” إلاّ عندما تكون مجازفة[71]. غيْر أنّ هذا الاعتراف، حسب أدرنو، لا ينبغي أن يفضيَ إلى “التفاؤليّة”. وهنا يقدّم مثالا طريفا يؤكّد من خلاله شيئيّة الفن وزواله، إذ كتب: “لقد تكلّم إرنْست شوين ذات مرّة عن شرَف فنّ الألعاب الناريّة الذي لا نظير له من حيْث هو الفنّ الوحيد الذي لا يروم الديْمومة بل الإشعاع للحْظ عيْن، ثم يذهب أدراج الرياح”[72].

           وعليْه، لئن ذهب بعض المنظّرين إلى اعتبار أنّ الفنّ قد “لقيَ حتفه” بسبب عجزه عن تمثّل “المطلق” بصورة حسّيَة، وأكّد بعضهم الآخر أنّ الفن هو “الوسيلة المثلى” التي تحيَى بيْننا لتحقيق الأرباح والمصالح الخاصّة؛ فإنّ أدرنو لا يقرّ بفناء الفن وبديْمومته. ومردّ ذلك إلى أنّه يعتقد أنّ “الهروب من الموْت يكوّن لحظة الوَهم في الفنّ”[73]. ويعتبر إنّ “التطلّع إلى خلق آثار فنّية كبرى دائمة قد وَهن وفسد”[74]. وفقا لهذا الاعتقاد السالب، يكون أدرنو قد تخطّى مقولة “الدّيمومة” و”الخلود”، ليُدرك “إمكان موْت الفن”؛ وهنا يقول: “يمضي الدائمُ ويحمل معه الديْمومة في دوّامة فوَاته”[75]، “و مثاله أنّ سيرفانتيس[76] لم يكتب دون كيخوت إلاّ من منظور المحاكاة الساخرة لروايَة “الفروسيّة” وتقصُّدا إلى ما هو زائل لا يدوم. يرتبط بمفهوم الديْمومة تشبُّهٌ أسطوريُّ بالقدامى المصريين لا طائل من ورائه”[77]. وفي السّياق نفسه، يشدّد صاحب “نظريّة استيطيقيّة” على ضرورة نزع صفة “الدّيْمومة”، الحاملة طابعا ميتافيزيقيا، على كل الآثار الفنّيّة، لأنّه “حالما توَثِّنُ الآثار الفنّيَةُ الأملَ في الدّوَام، يُصيبها داءُ الموْت”[78]. بهذا الشكل، تكون الآثار الفنّيَة زائلة متناهيَة، وتكون “حياتُها إنّما تتغذّى من الموْت”[79]، ويُصبح “الموْقف الوحيد الذي ما زال بإمكان الفنّ أن يعتنقه هو اعتناق الموْت”[80]. فهذا “الفن اللاّبديهي” يتّسم، على ما يبدو، بـ”ديْمومة الزّائل”، لأنّ “الأثر الفنّي الزّائل” هو “الكليشاي” المتشيّئ، وأمّا “الأثر الفنّي المتصيّر” فهو “لا يموت” بل يظلّ دائما على قيْد الحياة. كيْف لا وقد صار هذا الفنّ “لا بديهيا” في عصر التكنولوجيا وفي تاريخه النّظريْ الفلسفيْ، إلى درجة أنّ الفن يكاد “أنْ يصير إلى النفور من الفنّ”[81]. وقد صار نتاج أدوات الإنسان وليْس نتاج يديْه. وهذا الإنتاج التقني قد ساهم في تصاعد الجدل الساخن حوْل مصير الفن.

           صفوَة القوْل، أنّ الفن الحديث، في “النظريّة الاستيطيقيّة” لأدرنو قد صار “لا بديهيا” في كلّ ما يتعلّق به. وهذه “اللابديهيّة” إنّما هي نتيجة حتميَة لما شهده الفن من تشقّق في سقفه النّظري التاريخي الفلسفي المتأسّس على أعمدة المفهوم والأقنوم، المهتزّة؛ وكذلك لما شهده في عصر الحداثة والمجتمع الصناعي المتقدم من تأزّم وتمزّق بفعل تحويله إلى بضاعة تباع وتشترى في السوق، وإلى مجموعة من “أكاليل الزهور” التي يضعها أصحاب النّفوذ على رأس الجماهير حتى تخدّر عقولهم برائحة الرعوَنة السّامّة. ولهذا السبب فإنّ “الفن يناهض المفهوم بقدر ما يناهض الهيْمنة”[82]. وهكذا نخلص إلى نتيجة أخيرة مفادها، إذا كانت “اللابديهيّة” لا تمثل “موْت الفن”، فإنّ الفن يبقى دائما عرضة “لإمكان الموْت” بعد أن صار فريسة سهلة يطمع فيها كل من النّظريين والمنظّرّين.


  [1] تيودور ف. أدرنو: نظريّةاستيطيقيّة، ترجمة وتقديم وتعليق: ناجي العونلّي، منشورات الجمل، بغداد-بيروت، 2017، ص، 23.

[2] إن هذا الاستدراك يجد حضوره في القول التالي: “أمّا البحر الواسع لما لم يُستشعَر بعدُ، البحرَ الذي كانت قد ركبته الحركات الفنية الثورية حوالي عام 1910، فلم يفض إلى السعادة التي وعدت بها المغامرة”.

تيودور ف. أدرنو : نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه،  ص، 223.[3]

[4]تيودور ف. أدرنو:  نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه،  ص، 23.

[5]ما هو جدير بالذّكر ههنا هو أنّ حدث تصيّر الفن – لا أنْ يصير فحسب – هو نفسه قد صار غير بيّن بنفسه، هو تصيّرٌ لا يحمل معه إمكانا للتمييز بين من يَتصيّر ومن يُتصيّر. بحيث، إن الصّيرورة التي هي << انتقال الشيء من حالة إلى أخرى>>[5][جميل صليبا، المعجم الفلسفيّ بالألفاظ العربيّة و الفرنسيّة و الإنكليزيّة و اللاّتينيةالجزء الأوّل،  منشورات دار الكتاب اللّبناني، بيروت – لبنان، 1982، ص، 748 ]لا تعني أبدا هذا الحدث المُريب: لأن تصيّر الفن هذا لا يفيد مجرّد انتقال الفن من حالة إلى أخرى، بل يعني تنزيلا نقديا للفن في سياق التاريخ. و بعبارة أدرنو إنّ تصيّر الفن غير بيّن بذاته يعني “تمرد الفن على الفن” [ تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 27 ]. إنّ هذا الإقرار يسجّل حضوره في درس “الترجمة الفلسفية لـ”نظريّة استيطيقيّة” لآدرنو، الأستاذ ناجي العونلّي، 2016/2017″.

[6]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 13.

[7]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 23.

[8] إيمانويل كنط: نقد ملكة الحكم،ترجمة غانم هنا، منشورات المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت – لبنان، أيْلول (سبتمبر) 2005، ص، 113.

[9]“حكم الذّوق” الذي << لا يؤسس على مفاهيم أو أنّه يضعها غاية له >> [إمانويل كنط: << نقد ملكة الحكم >>، ص، 109] يسجّل حضوره في تفاعل الشروط الذاتية لإمكان المعرفة بما هي كذلك، أي في تفاعل قدرتنا على ربط ملكة الخيال بقدرتنا على إخضاع هذه الملكة لمفهومٍ ما، و في هذا المعنى قال كنط: << لكي نميّز الشّيء، هل هو جميل أم غير جميل، فإنّنا لا نعيد تمثّل الشّيء إلى الذهن من أجل المعرفة، بل إلى مخيّلة الذّات ( ربما مرتبطة بالفهم) و شعورها باللذّة و الألم>> [إمانويل كنط:  نقد ملكة الحكم، المصدر نفسه،ص، 101] على ألاّ يتوفر لهذا التفاعل أية غاية، فهي غائية ولكنها من دون أية غاية مادية. و عليه، فإن هذا الحكم هو ذاتيٌ بالأساس  و يرتبط هذا الحكم بشعوريْ اللّذة و الألم، كما ينخرط في فكرة تحديد مقدار الجمال في موضوع ما. ولذلك نقول أنّ “الذّوق” يصدر أحكاما جمالية من دون وجود أية غاية عملية.

[10] إيمانويل كنط:  نقد ملكة الحكم، المصدر نفسه، ص، 111.

[11] غيورغ فلهلم فردريش هيغل:  دروس في الاستيطيقا، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل، بغداد – بيروت 2014، ص، 31.

[12] هنا تحديدا صرّح هيغل، منذ مقدمة “دروس في الاستيطيقا”، أنه سيتفكّر من منظور المعالجة العلميةِ، << فلسفة الجميل الفني>> [غيورغ فلهلم فردريش هيغل،  دروس في الاستيطيقا ، المصدر نفسه، ص، 29]. تصريح نفهم من خلاله أنّه طبقا لنظرية هيقل الاستيطيقيّة ينخرط الفن من خلال مفهومه في اقتضاء الفن الجميل، وبعبارة أخرى: << إن الفنّ أو الجميل … يفضي طبقا لضرورة علميّة إلى مفهوم الفنّ الجميل >> [غيورغ فلهلم فردريش هيغل،  دروس في الاستيطيقا، المصدر نفسه، ص، 52].

[13] غيورغ فلهلم فردريش هيغل:  دروس في الاستيطيقا، المصدر نفسه ص، 50.

[14] غيورغ فلهلم فردريش هيغل:  فنومينولوجيا الرّوح، ترجمة و تقديم: ناجي العونلّي، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، نيسان، (ابريل)، 2006، ص، 685.

[15]تيودور ف. أدرنو : نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدمة الأولى، ص، 501.

[16]غيورغ فلهلم فردريش هيغل:  دروسفيالاستيطيقا، المصدر نفسه، ص، 39.

[17]غيورغ فلهلم فردريش هيغل:  دروسفيالاستيطيقا، المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[18]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدمة الأولى، ص، 506.

[19]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدمة الأولى، ص، 510.

[20]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدّمة الأولى، ص، 498.

[21]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدّمة الأولى، ص، 530.

[22]  من هنا، يصبح جليّا أنّ أدرنو جعل من نصّه “نظريّة استيطيقيّة” أرضا مشبّعة بألغام النّقد، كلّما تناول تصوّرا أو مفهوما أو تعريفا إلاّ وفجّره اعتقادا منه أنّ كلّ هذه المحاولات الاثباتيّة لتعريف الفنّ إنّما هي حتما محاولات “لا تطاق”(تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه ، ص، 24) لأنّ “حدّ ما هو الفنّ يشار إليه دائما بما كان عليه الفنّ في السابق” (تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 25). ويعتبر أدرنو أنّ الشّرط الوحيد في استقلالية الفن تكمن في تحرّره من “طابوهات التعريفات”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 38) لأنّ الفنّ هو النّقطة الهاربة التي يستعصى تحديده. وقد لمسنا هذا الإقرار في عدّة مواضع في كتابه “نظريّة استيطيقيّة” مثال في قوله إنّ الفنّ “عصيّ عن الحدّ والتعريف. ذلك أنّه لا يمكن أن تُستنبَط ماهيّتُه من أصله” (تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 25)، وقوله “إن الفن يتحقق نوعيّاً في انفصاله عمّا كان قد صدر عنه” (تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه،  ص، 26)، وقوله “أنّه لا ريب أنّ الآثار الفنيّة لم تصر إلى آثار فنّية إلاّ من حيث كانت قد نفت أصلها” (تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه،  الصفحة نفسها)، وحتى قوله “أنّ الفنون لا يمكن أن تُصنَّف تحت أيّ هويّة متماسكة ومكينة للفنّ” (تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 25). ومن خلال هذا كلّه، يتبيّن أنّ أدرنو يثور على الأقنوم ككل.

[23]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطقيّة، المصدر نفسه، ص، 163.

[24] Adorno (Theodor), Dialectique Négative , trad de l’allemand par le groupe de traduction du  Collége de philosophie: Gérard Coffin, Joélle Masson, Olivier Masson, Alain Renaut et Dagmar Trousson, éd, Payot, Paris, « le concept du concept lui-même est devenu problématique »p, 125.    

Collége de philosophie: Gérard Coffin, Joélle Masson, Olivier Masson, Alain Renaut et Dagmar Trousson, éd, Payot, Paris, « le concept du concept lui-même est devenu problématique »p, 125.    

[25]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدّمة الأولى، ص، 502.

[26] وفي هذا الإطار، يعلن صاحب “نظريّة استيطيقيّة” أنّ “المحاولات التي تستهدف تأسيس الاستيطيقا انطلاقا من أصل الفن باعتباره ماهيته، هي بالضّرورة خدعة”. (تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، <<نظريات في أصل الفنّ>>،، ص،487). غيْر أنّ سحابة هذه الثّوْرة تعدّت سفوح المفهوم والأصل والماهيات لتعمّ سماء أرض كل من “قيْمومة الفنّ” و”اللّماذا الاستيطيقيّة”. يؤكّد أدرنو أنّ “قيْمومة الفن” قد تزعزعت منذ لحظة تزعزع البعد الإنساني من التاريخ الإنساني. لذلك، دخل الفن في “طوْر عمى وهو طوْر من قوام الفنّ منذ أقدم العصور”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 23). استنادا إلى ذلك، يعتبر أدرنو أنّ الفن قد أجهض ذاته بذاته، إذ يقول: “مع النزعة الكلاسيكيّة، مصدر القيام الذاتيّ للفنّ، يأخذ الفنّ في إنكار نفسه بنفسه”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 257). وهو ما يعني أنّ الفن، في ظلّ النّزعة الكلاسيكيّة القائمة على مبدإ الانسجام، “يُخطأ قيْمومته الذاتيّة”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 31.). ويكون مبدأ الانسجام علّة “لا بديهيّة قيام الفنّ الذّاتي” لأنّه مبدأ ينفي عن الفن كل ما هو “متنافر” و”مخصوص” و”مميّز” ليَحصره في حدود “النّسيق” و”الجملة الشّاملة”. في هذه الزاوية تحديدا يُقرّ أدرنو أنّ الفن يسعى جاهدا للخروج من هذا الطّوْر من خلال انفصاله “عن العالم الخبري ويُنتج عالما له ماهيَته الخاصّة ويتعارض مع ذلك العالم، كما لو كان هذا العالم موْجودا”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 34): أي إنتاج عالم متنافر مغاير يحترم الجزئيات. بهذا المعنى تصبح “قيْمومة الفنّ الذّاتيّة” هي “الغايَة” المراد تحقيقها لا مجرّد وسيلةً. فهي شرط “السّلب” ومبدأ الفن الثاني مع مبدأ الفعل الاجتماعي اللّذان يقوم عليْهما الفنّ. فبعد كل اللّحظات النّقدية من نقد “للمفهوم” إلى نقد “القيام الذاتي” مرورا بنقد “الأفنوم”، ينتهي أدرنو إلى الإعلان عن لا بديهيّة سؤال “اللّماذا الاستيطيقي”. فانعدام الإيقان باللّماذا الاستيطيقي يعدّ نتيجة عدم الإيقان بإمكان الفنّ. لذلك، يقول أدرنو “أعني انعدام الإيقان من اللماذا الاستطيقية. فليْس يقيناً أنّ الفنّ ما يزال بعامّة ممكنا”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، الصّفحة نفسها). ويَتحوّل النّقد، بهذا الشّكل، إلى لبّ جوْهر الموْضوع. ويتّخذ التّنزيل النّقدي معنى مساءلة راديكاليّة. فيُصبح بيّنا أنّه بقدر ما تنعدم الحريّة في الكلّ الإنساني يتزعزع “القيام الذاتي للفن” ويتزعزع إيقان “اللماذا الاستيطيقي” في آن. فـ”فكرة الحريَة التي تقترن بالقيْمومة الاستطيقيّة، قد تشكّلت في اتّصال بالهيْمنة التي عمّمتها”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 48).

[27]تيودور ف. ادرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 163.

[28]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، الصّفحة نفسها.

[29]تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 24.

[30]  وممّا هو جدير بالاعتراف هنا هو أنّ منطق الفن لا يتنزّل في نفس خانة منطق العلوم، لأنّ منطق الفن لا يحتكم إلى ما يستند عليْه منطق العلوم. فهو لا يخضع لقواعد المنطق المعروفة، ويقوم “بمفارَقةٍ وعلى العكس من قواعد المنطق الآخَر، على انتهاجِ القياس بلا مفاهيم وبلا أحكام” (تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 219.). وإذ حرّر أدرنو منطق الفن من قيُود قواعد منطق العلوم نراه ينزّله في دائرة “استخلاص النّتائج”. إنّ منطق الفنّ “يستخلص النتائج من الظواهر التي هي لا محالة موْسوطةٌ روحيّاً، ومن ثمّ مُمَنْطَقَةٌ بقدْر معيّن” (تيودور ف. أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، الصّفحة نقسها).

[31]ناجي العونلّي (‘1968) أستاذ جامعي، بالجامعة التونسية، يهتم بالفلسفة الألمانيّة الحديثة، له عدّة ترجمات ك”فينومينولوجيا الروح” لهيغل و “نظريّة استيطيقيّة” لأدرنو، من بين مؤلّفاته نذكر”التّفكّر و الجدليّة عند هيغل” سنة 1996.

[32]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، مقدمة المترجم، ص، 12.

[33]هذا المصطلح آدرني هوركهايمي بامتياز، كان أوّل ظهوره في كتاب “جدلية التّنوير” لكل من تيودور ف. أدرنو و ماكس هوركهايمر، في جزء “صناعة الثقافة، التنوير وخداع الجماهير”، ص، 141.

[34]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 66.                                                                                                            

[35]راجع:

Jimenez (Marc),  « Qu’est ce que l’esthétique ? », éd, Gallimard, 1997, p, 389.

[36]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 48.

[37]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصر نفسه، ص، 49.                                                                                                            

[38]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 24                                                                                                          

[39]إنّ هذه الفكرة ترسو في ميناء النقد مع ما انتهى اليه روسو في مقالة “خطاب حول العلوم والفنون” حينما اعتبر أنّ أكليل الفنون تصبح بمثابة أيادي الحكّام الفلاذيّة المسلّطة على أعناق النّاس. وهذا التّصوّر قد رصدناه في قوله التّالي:

« tandis que le gouvernement et les lois pourvoient à la sûreté et au bien-être des hommes assemblés, les sciences, les lettres et les arts, moins despotiques et plus puissants peut-être, étendent des guirlandes de fleurs sur les chaînes de fer dont ils sont chargés, étouffent en eux le sentiment de cette liberté originelle pour laquelle ils semblaient être nés, leur font aimer leur esclavage et en forment ce qu’on appelle des peuples policés » Rousseau (Jean-Jacques), « Discours sur les sciences et les arts », éd, Chicoutimi, Québec, 1 avril 2002,p, 8.

[40]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 255’ 256.:

[41]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 69.

[42] Zima (Pierre). « La Négation Esthétique Le sujet, le et le sublime de Mlarné et Valéry à Adorno et Lyotard », L’harmattan, 2002, « dans ce procès l’art devient le principal témoin d’une philosophie qui se détourne le logos dominateur rationaliste, systématique et positiviste<< p 157.

[43]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدّمة الأولى، ص، 511.                                                                                         

[44]في هذا الموضع، يستنكر آدرنو كل التّصوّرات التي ترسوا في ميناء الموقف الزّهري من التّكنولوجيا، خاصّة تصوّر بنيامين. فقد رصد بنيامين عملية إعادة إنتاج الآثار الفنية بدءا من عملية الطّبع إلى التّصوير الفوتوغرافي الذي أحدث ثورة في ميدان إعادة استنساخ أو إنتاج الآثار الفنية. و هذا ما يلخّص في القول التّالي: “لقد بات بإمكان المرء اليوم أن ينتج فنّيا في مجال الإلكترونيك باستخدام وسائل نشأت من حيث طبيعتها الخاصة، خارج الاستطيقا. بديهيّةٌ هي القفزةُ بين رسم حيوان باليد على جدران الكهف والكاميرا التي تسمح بإظهار نُسَخٍ عديدة للصورة بالتزامن في أماكن مختلفة” [تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 71]. ثم قام بالكشف عن إسهام التقنيات في الفن. فمثلا يمكن عن طريق التكبير و الحركة البطيئة للكاميرا أن تتوصّل إلى جوانب في الأثر قد تغفلها العين المجردة. كما أصبح عن طريق الاسطوانة إنتاج أعمال موسيقية كثيرة تم تسجيلها في أماكن بعيدة عنا. و بالتّالي تمكّنت التّقنيات التّكنولوجية من اختزال المسافات بين العمل الفنّي و الجمهور. و أخيرا، يقرّ أنّ هذه الثّورة التكنولوجيّة جلبت معها أشكالا فنّية جديدة مثل “السّينما”، و ساهمت في انتشارها. وهذا كلّه يبرّر إخفاءه لمفهوم “الهالة”، الذي كان منذ القديم ميزة و شرف الأثر الفنّي. إذن، “في الحقيقة يتعلق الأمر أساسا بمسألة هالة الأثر الفنّي، التي أعلن بنيامين على تحطيمها منذ ظهور فن التصوير، تحديدا و بالتالي منذ دخول الفن عصر الاستنساخ التقني. إنّ بنيامين ها هنا يتصور أنّ الفنّ خرج من أفق استيطيقا الذات و دخل عصر التقنية، و هو إذ خسر قيمته الطقوسيّة و قداسته و أصالته، إنّما يربح بذلك ما هو أهم و أجدى: أي انتشاره بين الجماهير.و بالتالي ان فقدان الفن لقداسته انما هو حدث ايجابي، يدل في جوهره، على حد تأويل بنيامين له، على تسيّس الفن و تحوّله إلى طاقة ثورية لا بديل عنها” أم الزين بنشيخة المسكيني : الفن يخرج عن طوره أو مفهوم الرّائع في الجماليات المعاصرة من كانط إلى داريدا، [منشورات الجداول، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، تشرين الأول/ أكتوبر، 2011، ص، 171].

[45]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه،  ص، 152.

[46]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 142.

[47]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه،  ص، 27.                                                                                                          

[48]  يتّضح ممّا تقدّم أنّ الفنّ الحديث، حسب أدرنو، قد اندمج مع “الدعاية” وتكيّف مع المجتمع الحديث، فصار “وسيلة إيديولوجيّة” تُباع وتُشترى لتحقيق مصالح شخصيّة بحتة. وبذلك التّحوّل بات “استعمال الفنّ وسيلة إنّما يخرّب مناهضته للوسائليّة” تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، براليبومينا، ص، 482 .

[49]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 131.

[50]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 58 .                                                                                                          

[51]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص: 66.                                                                                                            

[52]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 68.

[53]  تعود مناظرة أدرنو لمقولة هيفل “موْت الفن” إلى أوّلا، تناسبها “مع ما صار الفنّ إليْه”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 26 )، وثانيا، لإدراكه “إنّ الفنّ نفسه غدا يبحث عن ملاذ في نفيِه، ويلتمس المحافظة على البقاء من خلال موْته”(تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، المقدّمة الأولى، ص، 507). إنّ فهم هذه المجادلة يتوَقّف على مصطلح “الإمكان” الذي اقتحم أسوار عبارة “موْت الفن” وغيّر معالمها. فبيْن “موْت الفن” و”موْت ممكن للفن” تتفجّر اليقينيات والحتميات ليملأ الإمكان أرجاء الفن.

[54] غادة المقدّم عذره:  فلسفة النّظريات الجمالية، منشورات جرّوس برس، طرابلس – لبنان، الطبعة الأولى، 1996، ص، 97.                                                                                  

[55]غادة المقدّم عذره:  فلسفة النّظريات الجمالية، المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.                                                                               

[56]غادة المقدّم عذره:  فلسفة النّظريات الجمالية، المرجع نفسه، ص، 99

[57]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 143                                                                                                         

[58]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص،26 .

[59]ابن سينا :  الإشارات و التنبيهات، تحقيق: مجتبى الزارعي، منشورات مؤسسة بسان كتاب، مركز الطباعة والنضر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الثالثة، ص، 101

https://www.google.tn/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=8&cad=rja&uact=8&ved=0ahUKEwjp4YDv1K7VAhVL7BQKHZ2rASwQFghKMAc&url=http%3A%2F%2Falfeker.net%2Flibrary.php%3Fid%3D4020&usg=AFQjCNGsJiM9M6oWELlesfV–Bl5kb5JDw.

[60]جميل صليبا :  المعجم الفلسفيّ بالألفاظ العربيّة و الفرنسيّة و الإنكليزيّة و اللاّتينية، الجزء الأوّل، ص، 134.

[61]جميل صليبا : المعجم الفلسفيّ بالألفاظ العربيّة و الفرنسيّة و الإنكليزيّة و اللاّتينية، الجزء الأوّل، الصّفحة نفسها.

[62]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 27.                                                                                                          

[63]هذه الترجمة لنا ونصّها الأصلي هو                                                                                                                  

« Hegel ne dit pas que l’art est mort, ni que les artistes ont disparus, mais qu’il a cessé de représenter ce qu’il signifiait pour les civilisations antérieures. Il faut dire ainsi, l’art reste pour nous – dans l’image que nous en ont transmise les Grecs, par exemple – quelque chose du passé »، Jimenez (Marc),  « Qu’est ce que l’esthétique ? », éd, Gallimard, 1997, p, 198.

[64]غيورغ فلهلم فردريش هيغل،  دروس في الاستيطيقا، المصدر نفسه، مقدمة المترجم، ص18                                                 

[65]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 386.                                                                                                       

[66]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 386، 387.

[67]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 75.                                                                                                          

[68]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 24.                                                                                                          

[69]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 77.                                                                                                          

[70]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 78.                                                                                                          

[71]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 73.                                                                                                           

[72]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 64.                                                                                                           

[73]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 215.                                                                                         

[74]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 63

[75]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، الصّفحة نفسها.

[76]ميغيلديسيرفانتيس (1547 – 1616)، جندي وكاتب مسرحي وروائي وشاعر إسباني، من أهم كتاباته “دون كيخوت” وهي رواية كتبها في جزأين، كان الأوّل في سنة 1605، و أمّا الثاني فقد كان سنة 1615. (الموْسوعة الحرّة).

[77]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص،63..

[78]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 64..

[79]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 215.

[80]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 216.

[81]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 75.

[82]تيودور ف أدرنو: نظريّة استيطيقيّة، المصدر نفسه، ص، 163.

  • باحثة تونسية
    فاطمة بلحاج لطيف باحثة دكتوراه في الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، تعمل على تعميق البحث الفلسفي وتطوير مشروعها الأكاديمي ضمن مجال اختصاصها، مع اهتمام خاص بقضايا الفكر الإنساني ومقارباته المعاصرة.

اقرأ أيضا

أترك تعليقا

سجّل اسمك وإبداعك، وكن ضيفًا في محافلنا القادمة

ندعو الأدباء والشعراء وسائر المبدعين إلى أن يُضيئوا حضورهم بيننا بتسجيل أسمائهم وتعمير الاستمارة التالية، ثم النقر على زر «أرسل» ليكون اسمكم ضمن قائمة الدعوات إلى تظاهراتنا الثقافية القادمة — حيث يلتقي الإبداعُ بنبض الحياة، وتُصاغ الكلمةُ في فضاءٍ يليق بكم وبأحلامكم.