123 حين يولد الطفل، يُولد معه كتابٌ خفيّ ينتظر أن يُفتَح يومًا…كتابٌ لا تُسطَّر صفحاته بالحبر، بل بالدهشة، وبما يغرسه الأبوان في تربة قلبه من حبٍّ للكلمة ونورٍ للمعرفة. ليس في الوجود مشهدٌ أبهى من طفلٍ غارقٍ في كتابٍ بين يديه، عيناه تشعّان اكتشافًا كأنّه يرى العالم يُخلق أمامه من جديد. تلك اللحظة هي ثمرةُ غرسٍ صادقٍ في أعماق الروح، لا في سطح العقل وحده؛ لأنّ القراءة لا تُفرض، بل تُورَّث بالقدوة والحنان. فالأب حين يحمل كتابًا كما يحمل آخرون هواتفهم، والأمّ حين تُنصت لسطورٍ كما تُنصت لنبض الصباح، يعلّمان أبناءهما أن المطالعة ليست فرضًا مدرسيًا، بل فنّ حياةٍ وسرّ وجودٍ. الأب يفتح للطفل الأفق، يروي له قبل النوم حكايةً تغرس في خياله بذرة السؤال، وتفتح في ذهنه نافذة الحلم. والأمّ تضيء له الدرب بحنانها، وتجعله يؤمن أنّ الكلمة يمكن أن تكون حضنًا، وأن الصفحة قد تتحوّل إلى جناح. وحين يعتاد الطفل على مرافقة الكتاب، فإنه لا يكتسب معرفةً فحسب، بل يتشرّب قيمًا إنسانية سامية؛يتعلّم من الحكايات الرحمة والتسامح والجمال، ويدرك أن الفكر لا يكتمل إلا حين يُنير القلب أيضًا.فالقراءة تُهذّب الذوق، وتُنعش الضمير، وتعلّمنا أن نرى في اختلاف البشر تنوّعًا لا خصامًا، وفي الجمال معنى للوجود. الكتاب ليس جمادًا على رفّ، بل صديقٌ نبيل يوقظ فينا الإنسان. والمطالعة ليست مجرّد عادةٍ تربويّة، بل فعل مقاومةٍ ضدّ التّفاهة، وسبيلٌ لترميم أرواحنا في زمنٍ ازدحم بالضجيج وقلّ فيه الإصغاء. وحين ينجح الأبوان في غرس هذا الحبّ، فإنّهما لا يُنشئان قارئًا فحسب، بل إنسانًا يرى ما وراء الكلمات، ويفكّر، ويحلم، ويؤمن أنّ الحياة ليست ما نعيشه فحسب، بل ما نقرأه أيضًا. فيا أيّها الأب، ويا أيّتها الأم…كونا أولَ الحكاية، ودعوا أبناءكم يكتبون فصولها بالقراءة.فأجمل إرثٍ نتركه لهم ليس مالًا ولا جاهًا،بل عقلٌ مضيء، وروحٌ تعرف أنّ في كلّ كتابٍ حياةً جديدة تنتظر أن تُفتَح صفحتها الأولى.