تعد الشاعرة ثورية الكور من أهم وأحدث شعراء قصيدة النثر الحداثية في المغرب العربي، ومن أبدع الشواعر الواعيات بقصيدة النثر وسيماتها وصيرورتها الدلالية، فهي شاعرة من الطراز الحداثي المكابدة بحثا عن الجديد وتقنياته وأيديولوجيته وعن النثر الشعري الكثيف الصورة والدلالة الذي لا يعتمد المعنى القريب كظاهرة شعرية أو أسلوبا أو شكلا، إنما تعبر إلى ما وراء المعاني وإلى ما رواء المتداول بين الشعراء الذين أوَّلُوا اللفظ إلى دلالة المعنى المعجمي والصورة الشعرية المتداولة وكتبوا قصيدة التفعيلة، كما كتبوا قصيدة النثر، فاختلفوا على الإجادة من حيث الصورة والمجاز والتكثيف، وتخطت الطرق المعهودة وعبرت من خلال فضاءات شعرية أخرى، ومدارات بعيدة في نفس اللحظة الشعورية، وعمَدَت إلى خَلْق صورٍ وتعقيد وتكثيف الصورة الشعرية ذات المجاز الانزياحي عبر مفارقات فيها غائية الشعور الذاتي والمنحى الأيديولوجي والفلسفي الحداثي ،وبسريالية اللاوعي عن عمق ووعي باللاوعي…
تقول عن الحب:
أنا لا أعرفُ شيئاً عن الحبِّ يا أبي
أخافُ من عيونَ الرجال
أخاف الاقتراب
الفراشاتُ التي تنبتُ عبثاً على جسدي
تخشى الاحتراق
تخافُ السقوطَ في ليلٍ طويل
لذلك أخبئُ قلبي في علبةٍ مغلقةٍ
في دولابِ أمي
وأخيطُ ثقوبَها بخيوطٍ ملونةٍ
كي لا تمزقها ريحُ الهوى
وتُفرغني في كفِّ رجلٍ لا أحبُّه
تنطفئُ فراشاتُ قلبي
وأحلِّقُ وحيدةً بدون أجنحة
الشوقُ العالقُ في خصلاتِ شعري
والثقبُ الكبيرُ في صدري
الحزنُ العالقُ في ظلِّي
يذيبُ شموعَ الأنثى التي أحملها في داخلي،
أنا لا أعرفُ شيئاً عن الحبِّ يا أبي
ما أعرفه ان هناك امرأةٌ يائسة
تجلسُ كلَّ ليلةِ قرب النافذة.
(وجع الرغبة لنساء صغيرات _ص. 10 منشورات الدرازيش للنشر والترجمة)
تعمد الشاعرة إلى ثنائيات وتختفي وراء المعنى الدلالي الذي ساقت من أجله هذه المعاني والصور العميقة البعيدة ناكرة المعاني الوجدانية ومعرفة الحب الذي وجدت به العلاقات بين البشر والتحمت به البيوت والأسر، ابتنت بوجوده المدن والحضارات الإنسانية.
لقد اصبحت تخاف من الرجال ومن النظر الى عيونهم المحملقة في الأنثى، حتى الفراشات تنبت عبثا على جسدها تخشى الاحتراق كي لا يحترق جسدها وتصل النار إلى قلبها، الفراشات لا تنبت على جسد البشر إنما رمزت بها الشاعرة إلى عدم الأمان والخوف حتى من وقوع الفراشات إذا وقعت على جسدها… كل ما حولها مخيف لا أمان للبشر ولا للأقدار. تخبئ قلبها في علبة تخيط ثقوبها بخيوط ملونة، كي لا تمزقها ريح الهوى. فالهوى هنا خصم للذات والأنا الذي افرغت قلبها منه عبر مراحل جرفها تياره، وخانها ماؤه.
ما بقي من تلك الذكريات لا تملك الاحساس والحركة وبقايا شوق عالق بخصلات شعرها وثقب في قلبها وحزن عالق بظلها، وهي الذات المحترقة… كل تلك الذكريات، ذكريات مأساوية وآلام تكاد – إن لم تكن – تفتك بوعي الشاعرة ووجدانها… استخدمت الشاعرة المجازات الانزياحية الموغلة في الدلالة لمعاناتها ومأساتها، ان تقع في يد رجل لا تحبه، إنها مأساة الفتاة والمرأة العربية منذ العصور السحيقة، فالفتاة العربية لم توفق في حب قرين أرادها، ومثلها الشاب العربي لم يوفق في الاقتران بمن أحب إلا ما ندر، فقصص المحبين – وأصحاب الحب العذري – يندى لها الجبين وتتصدع لها الصخور وتشجى بها الأصداء، انثى لا تعرف سوى الحزن والألم والخوف والمأساة، صارت النافذة ملجؤها الذي تطل منه على العالم، والصديقة التي تبوحها ما بقى من أسرار وذكريات مأساوية شجية.
خذني إلى البحر
حيث ترمي النساءُ الحزيناتُ ذكرياتهن
وتدفنُ الفتياتُ الصغيراتُ قصصَ الحبِّ في رمالِ الشاطئ
خذني إلى النهرِ حيث تستحمُ النساء
من خيبةِ الحبِّ وهن عارياتٌ كسنابلِ القمح
خفيفاتٌ كالظل
أنا أيضاً
كنتُ أودُّ أن أكون حبيبةً لرجلٍ مثلهن
لكني وضعتُ قلبي في علبةٍ مغلقة
ورميتُ المفتاحَ في النهر
فوجدته في المقبرة.
(وجع الرغبة لنساء صغيرات _ ص. 11 منشورات الدراويش للنشر والترجمة)
تعود الشاعرة إلى خطاب الأب ولن تخاطب الأنا أو الذات أو المحبوب بل وجهت الخطاب إليه دون ذكر (ابي) اعتمادا على النداءات السابقة في أول النص وباعتبار الأب هو السلطة المطلقة داخل الأسرة والحاكم لها والمتحكم في مصير الفتاة الابنة، من حيث الزواج الشرعي، المعلل بالقدر والنصيب، وكأن الزواج قدر من الأقدار التي ليس للبشر فيها تدخل ولا مشيئة، يوردون كل تلك التعليلات الواهية لا قناع أبنائهم وبناتهم بأن الزواج محكوم بالقدر، فهو كالآجال والأعمار الغيبية المقدرة، ولذلك لم تفصح الشاعرة عن تلك القوانين الأبوية والاجتماعية الغير عادلة، إلا من راء الاقنعة والرموز، والدلالات التأويلية، فقد استطاعت إيصال الرسالة إلى القارئ والمجتمع والجمهور العام بكل أطيافه ومكوناته.
فالبحر لدفن الاحزان ودفن ما علق بهن من غبار الذكريات وتدفن الفتيات الصغيرات قصص الحب الطفولي في رمال الشاطئ، ثم تكرر الخطاب بالأمر والامر هنا (خذني) للتحسر- والتأسي، ومن البحر إلى النهر حيث الماء العذب لكن العبور عند الشاعرة – إلى النهر ليس للاستحمام والتفسّح والاغتسال وليس من ذنب خطيئة الحب – كما حدث عند صويحباتها الصغيرات اللائي تمنت أن تصير مثلهن، وتتخلص من إثم وخطيئة الحب.
خذني إلى النهر فالنهر ماء عذب للاستحمام وتبادل الذكريات الجميلة بين الصديقات الأخريات ممن وفقن في غرامهن وحبهن… بينما النهر عند الشاعرة ومثيلاتها لدفن خيبات وأحلام الحب التي خانهن فيها الحظ وخابت أحلامهن. عاريات كسنابل القمح بعد ان اغتسلن من إثم وخطيئة الحب، تتمنى ان تكون مثلهن رغم خيبات أحلامهن… لأنهن اغتسلن فَطَهُرن من إثم الحب وخطيئته، حتى أصبحن عاريات كسنابل القمح، لكن شاعرتنا لم تغتسل لتبرأ من خطيئة الحب الذي كان سببا في مأساتها وشقائها، وأحكمت الإغلاق على قلبها خوفا من الوقوع في الحب ثانية… ورمت المفتاح في النهر ليبقى قلبها مُغلقاً عليه ثم انزاح المفتاح الى المقبرة … أي خوف يسيطرعلى هذه المشاعر؟
لقد آمنت بالانفرادية والتوحد بعيدا عن العاطفة وخوفا من الوقوع في الحب واتخذت ثنائية مغايرة للعاطفة، العاطفة التي من خلالها تواشجت وتلاحمت تلك الأسطر الشعرية لتشكيل لوحة سيميائية حزينة معتمة في مجملها.
إنها ذاكرة الفقدان فقد يكبر الحب كثيرا وفجأة يصبح ذكرى مؤلمة لا يمكن نسيانُها أو حذف ما بقي من ذاكرة الحب الذي بنيت عليه أحلام وآمال حبيبين، وامتزج بالوجدان والذات، وربما كانت التجربة الشعرية عند شاعرتنا – وعند الكثير من الشعراء و الشواعر- في احدى حالاتها هي تجلٍّ للصورة الوجودية لأزمة الإنسان المعاصر، كما أن القلق الوجودي للإنسان العربي – بشكل عام بما فيه المرأة – أفرز الصيغ الشعرية المتعددة كنوع من التعبير الجمالي عن أزمة الذات تجاه الواقع وتموضع الذات على أرض هذا الواقع، إن التجربة الشعرية الحديثة تختزل هذا القلق وهذا الحزن من خلال لغة شعرية حديثة تكشف عن وعي متجدد للذات، باعتبار إن الشعر يحاول اختزال تجربة وجودية بفعل اللغة الجمالية القصدية ذات الدلالة المجازية المُولِّدة، والتي هي في جانب من جوانبها تعبير عن الجدلية بين الذات والواقع، أو قلق الشعراء من الجنسين تجاه العالم.
ماذا يعني أن تفتحَ لك امرأةٌ قلبها
وتكسرَ (خَرَسَها) الطويل؟
وهي قادرةٌ بعد كلِّ هذا الوجع
أن تزرعَ نبتةَ (الخشخاشِ) على صدرها
تحيي بها قلبَها الميتَ وتبتسم
تهزمُ جرحَ الليل بأغنيةٍ
وحلمٌ صغيرٌ مخبأٌ في قلبِها الذي
يشبه جندياً.
(وجع الرغبة ص. 8 منشورات الدراويش للنشر والترجمة)
سؤال عميق من الذات إلى الذات الأخرى، سؤال مملوء بالشجن والفلسفة والتشظي الوجداني، ماذا يعني ان تفتح لك امرأة قلبها، وتكسر الصمت الطويل ولديها القدرة على النسيان بعد كل تلك الآهات والتشظيات التي كابدتها في غياب الأنا الأخرى وانكسار الآمال التي بنت عليها أحلاما للسعادة والغد الجميل ليضم قلبين! ماذا يعني أن تفتح امرأة قلبها لرجل تركها خلف الجدران وخلف النسيان، ولديها القدرة والطاقة البديلة إلا أنها ارتأت في عودته حلما أيقظ صمتها وألَانَ كبرياءها في إصرار ووفاء أن تفتح هذا القلب الوفي المتشظي بآهات الحب…
لديها القدرة ان تزرع نبتة (الخشخاش) على صدرها لتعيد بها حياة قلبها الميت من السعادة لتبتسم… تغني لتهزم جرح الليل بأغنية.
اختيار زراعتها لنبتة (الخشاش) على صدرها مجاز عميق وصورة شعرية حداثية لم يسبق إليها شاعر، وفيها تَحدٍّ لما هو خارج المألوف ومغاير لما اعتاده الشعراء والعشاق ولما يستعيضون به في الأجواء الحزينة أو الصاخبة والليالي الفُقْدِية، حين يذوبون شوقا ويشتعلون غراما وفقدا لمحبوباتهم فهم يستخدمون الورود والزهور والتحدث بلغة العتاب والوفاء، فالعشاق والمحبون قد يلجؤون إلى المُدَام و(الخمرة) والحداثيون يميلون إلى حداثة المسلِّيات والمشروبات الروحية كـ(البِيرَة ) و(النَّخْب)، وكاسات فيها يمتزج الوعي باللاوعي ويتحول الاكتئاب إلى فرح ويتحول المكان من مأساوي إلى رومانسي، أما شاعرتنا في تشظياتها وفقدانها وخسرانها للمحبوب تستعيض بقناع أو أقنعة أخرى، أفصحت عن بعض منها وأشارت إلى نبتة لم يتعاطها العشاق والشعراء في أشعارهم للتسلية والنسيان واللهو والخروج من مأساتهم، فهي تهزم جرح الليل وعتمته وأشجانه وذكرياته المؤلمة بتعاطي (الخشخاش) وأغنية تفتح بها عالما بقلب الشاعرة وتزرع أملا وحلما جديدا يفرح قلبها الذي يشبه الجندي العائد من المعركة مهزوما، فيعمد إلى الاحلام والتسلية ليبني حلما جديدا لانتصار الغد… إنها فلسفة الذات للذات وابتسامة اللاوعي للوعي ومداهنة اللاشعور لتهدئة النفس وإضعاف براكينها الداخلية.
ليس لدي ما أقوله الليلة!
وجه الرجلِ الذي رحل
لا يزالُ عالقاً على جدارِ غرفتي
يبحث عن امرأةٍ بعينين واسعتين
وشعرٍ قصيرٍ يبحثُ عن حبيبته
التي نسيت عطرها في المقابر
ليس لدي ما أقوله الليلة؟
نافذةٌ مغلقة
امرأةٌ خاصمَها النوم
تضع حبةَ أسبرين تحت لسانها
تنامُ في قلبِ رجلٍ بعيد
ممتلئة برائحة الماضي
تعانق دفتراً صغيراً
ترسم عليه حماقاتها تتسربل بالكتابة
الليلُ طويلٌ وبارد
الرغبةُ في النوم تجعلها
تفكرُ في النوم لعامٍ كامل.
تتخاصم مع النوم ومع صورة الرجل المتخيل على جدار الغرفة، إنها الصورة العالقة باللاشعور تنبعث من أصداء وجحيم الذاكرة والأنا المتشظية بالخوف كلما قدم الليل بظلمته، رجل يبحث عن امرأة ذات عينين واسعتين… عن حبيبته التي نسيت عطرها في المقابر…
ثنائية بين المقابر وطول الليل البارد فالمقابر رمز للموت والعدم واللا زمن، بينما الكتابة والليل البارد والتخاصم يدل على زمن منبعث عن الحياة الكئيبة والحركة والشعور بالألم وانتظارا لفجر فيه النور والحياة، فالشاعرة تهرب من الليل بتعاطيها حبة اسبرين. فالأسبرين لا يريح المُسهَّد ولا يمدُّه بالراحة والنوم، فهناك أدوية أخرى تساعد أصحاب الأرق على جلب النوم، لكن الشاعرة اتخذت من الاسبرين – لكثرة تداوله – مادة جالبة للنوم وللراحة والخروج من الوعي والقلق إلى عالم الاحلام واللاشعور، وقد يعتمد شعراء قصيدة النثر على الاستعارة والمجاز أو التشبيه الاستعاري إلى أشياء ومسميات، قد يوفقون في الإشارة إليها أحيانا وقد يتوهمون أحيانا بأنها تؤدي الى دلالات تخدم البُنى الدلالية القصدية، فالأسبرين (طبِّيًّا) لا يحتوي على مادة (مخدرة) او على مادة مريحة من القلق والخوف، لكن الشاعرة ظنت ذلك توهَّما منها، ورغم إغلاق النافذة المحسوسة إلا ان تلك الصورة ماتزال تُستَعاد عبر قدوم الليل، النوم مجازي والزمن الليلي يتمدد ويطول، امرأة تتخاصم مع النوم، النوم صار (شَبَحاً) ملازما للذكرى المأساوية الحزينة وخصما، كما أن اللجوء إلى قرص من الأسبرين يشير إلى حالة القلق والخوف والتفكير السلبي والرغبة والإصرار في استدعاءٍ لِنومٍ غير طبيعي تود النوم فيه عاما كاملا…
خذني إليك كجندي
يزرع الحب فوق صورة حبيبته
التي يخبئها في جيبه
يعيد رسم ملامحها على وجه الدرب
ثم يتوسد المسافة الفاصلة بينه وبينها
يفك أزرار الحلم ويذرف هزيمته
على ضفائرها
وهو ينشد شعراً عن الحرب والحب والوطن
خذني إليك
في الوقت الضائع من العمر
خذني إليك فالحياةُ مملةٌ هذا الصباح
وأنا أعد الفطور
وأفكر ماذا سأطهو لوجبة الغداء؟
(وجع الرغبة _ص. 36 منشورات الدراويش للنشر والترجمة)
في هذا النص وفي نصوص أخرى من مجموعة الشاعرة (وجع الرغبة لنساء صغيرات) وفي مجموعتها الثانية (ما بعد المنتصف) منشورات جامعة المبدعين المغاربة وفي مجموعاتها الأُخَر لو قرأناها بتأمل وعمق لوجدنا مساحة كبيرة من الحرية والبوح الساخط على واقع المرأة العربية، وليس في شاعرية الشاعرة ثورية الكور فحسب، بل في غالبية شعرية النساء المعاصرات، ومرجع هذا القدر الكبير من الحرية الذي أتاح للمرأة العربية الولوج إلى عالم الشعر يعود إلى طبيعة الحياة والظروف الاجتماعية والحضارية التي وصل إليها الإنسان العربي، ورأى أن في مشاركة المرأة له في العمل الخدمي الوظيفي لا تقل جهدا عن مشاركتها له في العمل في الحقل أو في البيت، فهرعت نحو المؤسسات التعليمية والمهنية والطبية… وفي بعض الوظائف الحكومية البسيطة، وكان لزاما على المجتمع الذكوري أن يفسح لها المجال قليلا لتؤدي دورها في الحياة إلى جانب الرجل، كما كان لأدوات التواصل الاجتماعي كالإعلام المرئي والمقروء والانترنت دور مهم -جدا – في بناء الفكر العربي من حيث المعلوماتية والسماح للمرأة بالمشاركة ضمن الأطر الاجتماعية والخدمية والوطنية التي تستدعي المرأة في المشاركة كشريك عملي اجتماعي وثقافي واقتصادي للمشاركة الفعلية في كثير من المهام العملية والعلمية والفكرية المقصورة على الرجل دون المرأة،
فشاعرتنا تصور حال حبها وذكرياتها بجندي رجع من الحرب وتذكر حبيبته، فأخرج صورتها من جيبه وهو يقبلها ويلعن تلك الحرب في ذاته، وما آل إليه الواقع الذي يتجرع مرارته وبعد محبوبته، فخلد إلى موقعه يتماهى مع ذكرى المحبوبة، ويهذي ببعض الكلمات ويردد أشعارا عن الحرب والحب والوطن!
وهل هناك توافق بين هذه المتناقضات
إنها ثنائيات ضدية لا تتوافق فيما بينها فالحرب ليس فيها إلا الاقتتال والعنف والإبادة والموت، والجنود هم أدواتها المحركة ووقودها الذي لا ينضب إلا بوقفها، فلا نجد جنديا عاشقا ومحبا أو غير عاشق خاض مع زملائه حربا وخرج منها يثني عليها، سواء أ كان منتصراً في تلك الفئة التي ينتمي إليها، أم كان مهزوما،
فالشاعرة حالتُها كحالةِ الجُندي العائد من المعركة، يجر الهزيمة بخيباته ويُواسي نفسه ويؤسيها بذكرى المحبوبة لعله يهدئ من روعة نفسه ومشاعره من مآسِي الحرب وويلاتها،
لا تطرق باب امرأة تجاوزت الأربعين
وزنها صار أثقل من الحياة
تقشر وجه الوقت على صفحات دفاتر أشعارها
لكي تنجو من وجع الذكريات
تعانق قصيدة عارية
ليلها يضج بالكوابيس
كلما غفت عينها
تخشى أن تلتقي ذلك الرجل
الذي ينتظرها كل ليلة
على الطريق المؤدي إلى الحلم
ليخبرها بأنها نضجت بما يكفي
كبرت بما يكفي
ويجبرها أن تخمد الحريق
المشتعل في قلبه
ينام على كتفها
يبكي خلف عتبة روحها
يحملها ويمشي خلف أسراب طيور مهاجرة
(ما بعد المنتصف _ ص. 22)
النهي صادر عن قناعة الأنثى ومن هنا قد ندرك من خلال الزمن المذكور في صدر النص (الأربعين) أن المرأة بعد تجاوز الاربعين ليست مؤهلة للعشق والغرام وهذا ما تصرح به الشاعرة، فهل ينطبق هذا السلوك وهذه القناعة عند جميع بنات حواء!؟ وهل هو عامل (جينولوجي) عند كل النساء ومن مختلف الأجناس البشرية؟ أم أنه خاص بالمرأة العربية التي عانت أنواع الاضطهاد والظلم، وقوانين العيب والعار حتى حاسبها المجتمع على لمس المصحف باعتبارها غير طاهرة في جميع الحالات…
اعتقد أن هذا العمر قد يتيح للمرأة العربية نوعا ما من الحرية التي لا تحصل عليها في عمر الثلاثين، فبعد الاربعين قد تصبح لها أولاد في عمر الشباب وذلك بحكم الزواج المبكر للإناث، وقد تتلاشى رقابة الأهل وغيرة الزوج، وتسكت ألسنة المجتمع البذيء الناقد، لأنها أصبحت امرأة ناضجة وكبيرة وعاقلة ولديها أبناء في عمر ابيهم بالأمس، وبنات في سن أمهن يوم تزوجها أبوهن، فلا خوف لأن الجمال والحسن الذي كان بالأمس على سماحة الام الاربعينية اليوم، قد بهت واختفى بريقه وذبل زهره…
عزيزي يا أنت
أنتَ كشجرة واقفة في وجه الريح
وأنا كغزالة شاردة..
تركض خوفا من المجهول
الحياة شقيقة للموت
والموت سيصبح رغيفا للجميع
كلما صادفت رجلا..
ركضت نحوك خوفا من الحب.
(ما بعد المنتصف _ص. 25 )
تخاطب الشاعرة المحبوب وتشبهه بشجرة تصد الريح، وتشبه شخصها بغزالة شاردة في فلاة تركض خوفا من المجهول القادم من وراء الافق ومن خلف تلك السهول والجبال والكثبان، مستخدمة المفارقة كحل ووسيلة للهروب من المجهول، إنها فلسفة القناعة وفلسفة الهروب من الواقع، موقنة بأن الحياة أخت شقيقة للموت،
أحدهم يبكي بداخلي
أما أنا فبخير هذه الساعة
سأقول صباح الخير لكل النساء
لقد نجوت من الحياة
أقول صباح الخير لكل النساء
لتلك المرأة التي نسيت
وجهها في المرآة
وهي تشكله على مقاسات أعين الرجال
تغير هيأتها كل مساء
حتى لا يتعرف عليها الزائرون
تختبئ عن العيون
عالقة في المنتصف
نصفها يبكي
والآخر يضحك
كل المارة لديهم ما يكفي
من الظن السيئ بها
تحضن انوثتها بين لحظات عابرة
تتمنى أن تنجو بحمالة صدرها
من محطات العالقين في قطار وجع الرغبة
وهي تشتعل لتنطفئ.
(ما بعد المنتصف _ص. 18)
مازالت الأنثى العربية أو بالأحرى المرأة العربية تعيش حالات من القلق والتشظي، وبُعدا اغترابيا داخل ذاتها المتصدعة بالواقع الاجتماعي والإنساني، تذهب من الذات إلى القصيدة ومن القصيدة إلى اللغة لعلها تجد ما يؤثث تشظياتها وانسنتها الوجدانية الضالة في متاهات الوعي الذكوري، واللجوء إلى عالم المثالية الذي تراءت انفتاحه على واقع أمسها وأحلام غدها المؤمل برؤية إنسانوية، تشاطرها تلك التشظيات، وتشاركها في ردم تلك البؤر السوداوية الحزينة المقلقة لحاضرها، والمؤرقة لمستقبلها الأنثوي كإنسان تقع عليها المسؤولية الكبرى من واجبات اجتماعية وتربوية داخل هذا الكون البشري الهائل، المليء بالوحشية والافتراس الذُّكوري للأنثى، لكي تنجو من شراسة الإنسان الشرقي الموسوم بالوحشية الحيوانية والشبق (الجنسي) داخل هذا القطار الذي لم يغير اتجاه مساره ولا سلوك ربانه وسائقيه، إنه قطار الحياة العربية بشتى همومها وتغيراتها وأحداثها وسيكولوجية المعاني الفظة وجبروتها الوحشي.
تمُوتُ النّساء
وأعينُهنّ مفتوحة على بابِ السماءِ
وخصلاتُ الشعرِ مفرودة على أجسادهنّ
والحزنُ يتمددُ على وجوههنّ كأوراق اللبلاب
تموتُ النّساء واقفاتٌ
كالنخلِ.. وديعات كسنابل القمحِ
خفيفات كالظل
ثقيلات.. كالحياةِ
تموتُ النساءُ في البيوتِ
المُغلقة بالعاداتِ والتقاليدِ
على شرفات المنازل
تموتُ النساء في أعيُنِ الآباء
وهنّ صغيراتٌ حَزيناتٌ..
وأنا مثلهنّ
كنتُ ميتة قبلَ أن استيقظَ،
(ما بعد المنتصف _ص. 15)
هذا النص يحكي لنا واقع المرأة العربية، وما تعانيه من حكر وقيود اجتماعية، حتى في المجتمعات المتحضرة والمدنية، فهي تعيش في ماضي الأمس الاضطهادي، ماضي القبيلة العربية التي اتخذت من الأنثى سلوكا مناقضا ومناهضا للسلوك الأبوي الذي يرى فيه الأب والمجتمع الخير والسعادة وتكامل البناء العائلي، والتكافل الاجتماعي،
النساء تموت موتا غير عادي، موتا مجازيا، النساء يمتن وهن شاخصات الأبصار، يمتن وهن أحياء في ردهات البيوت، ووراء الجدران والأبواب… تموت النساء وفي أحلامهن مشاعل مطفأة لم تعرف الاشتعال، يمتن موتا إجباريا قبل أن يتنفسن أو يستنشقن الهواء الطلق.
لقد صورت الشاعرة واقع المرأة المعاصرة التي كانت تبني أحلاما بالأمس لتتحقق في الحاضر المعاصر ضمن عولمة الحضارة الإنسانية للبشرية جمعاء وعلى مشارف العقد الثالث للقرن الواحد والعشرين.
اتمنى ان تكون قراءتي السالفة في شعرية الشاعرة المغربية أ. ثورية الكور قد انصفت النص الشعري وقصيدة النثر الجديدة، وانصفت المرأة كصوت عربي شعري أفرزته النصوص الشعرية في غالبيتها إلى ما تبقى من مأساة وسوداوية داخل البيت العربي والأسرة والقبيلة العربية من ظلم وقيود اجتماعية، تتمثل في ظلم المرأة، من حيث الزواج وارتفاع غلاء المهور وفي حرمانها – في بعض الدول العربية – من التعليم والوظيفة وعدم مشاركتها للرجل في العمل المؤسسي، وفي الوظيفة المدنية باعتبارها ربة بيت وأداة للإنجاب لا تتجاوز عتبة الدار…
آملا أن تكون قراءتي هذه مفيدة وذات بعدين: بعد فني، وبعد موضوعي يستفيد من الأول الشعراء المبتدئون، ليميزوا بين النثر الشعري العميق والنثر السردي الذي لا يصل إلى الشعر…
بقلم / أ. عبده عبود الزُّرَاعي
21 مارس 2024 / اليمن