الصفحة الرئيسية قصيدة النثر زاهر الأسعد من فلسطين يقدّم نصّا بعنوان “ضوء لا يعرف الجمهور!!”

زاهر الأسعد من فلسطين يقدّم نصّا بعنوان “ضوء لا يعرف الجمهور!!”

494 مشاهدات 1 دقائق اقرأ

ها أنا أعود
من صدعٍ في المعنى
كأنني كنتُ نقطةً في جملةٍ لم تُكتب
أو ظلًّا يتبع ضوءًا
لا يعترف بالظلال

في العزلة
أسمع صوت ارتطام أفكاري
بجدران الوعي
ولا أرى سوى ظلي وهو يتقشّر من ملامح الآخرين
ولا أرتدي سوى قميص الوجود حين يتجرّد من الأسماء
أخلع اللغة لأرتدي المعنى
وأخلع المعنى لأرتدي الصمت

نعم،
تحررتُ من واجب المجاملة،
ومن طقوس التبرير التي كانت تُخيط
لي وجوهًا لا تشبهني
ومن عبء أن أكون كما يريد الآخرون
وصرتُ
كما لا يتوقع أحد
كاحتمالٍ لا يُراد له أن يتحقق.

في العزلة
اكتشفتُ أنني
كنتُ أعيش في مسرحٍ بلا خشبة
الابتسامة تُوزَّع فيه كمنشورٍ
دعائي
والصمت يُفكَّك كرمزٍ في معجم الآخرين
كنتُ أُؤدي دورًا لم أكتبه
وأُصفّق لنفسي كي لا يسمعني أحد

الآن
لا جمهور لي سوى الأشجار
التي لا تُصفّق
ولا نقدَ سوى من الريح التي لا تكتب تقارير
ولا تصفيقَ سوى من قلبي حين يهدأ
كأنني أتنفّس للمرة الأولى
وأولَد من غيابٍ لا يُحتفل به

في هشيم الصمت
تتكشّف لي وجوهٌ لا تُرى
في الضوء
وجوهٌ ترتدي أقنعةً
تُشبه المرايا حين تُعمي
وتُشبه الصدقات حين تُشترى بها الأصوات
كأنهم يسرقون الضوء ثم يبيعونه كمنحة
يُراكمون المجد من فتات الجوع
ويُسمّون السرقة
رعاية
واليد التي امتدت لتأخذ
هي ذاتها التي تُصفّق لنفسها

أحدهم
كان يزرع اسمه
في حقول الآخرين
ويحصد التصفيق من تعبهم
ثم يُراوغ
ويُرافع
كأن الجريمة إذا نُطقت بلغة
النصح
تصبح صلاة
وكأن الفضيلة تُقاس بعدد المتفرجين

لكن الضوء لا يعرفهم
ولا يعترف بمن يطلب الجمهور
قبل الفعل
ولا يُضيء وجوهًا اعتادت أن تُرى أكثر مما ترى
يسكنون صداه لا جوهره

أصبحتُ أرى الأشياء كما هي
لا كما تُعرض في واجهات الرأي العام
الكتاب صار كتابًا
والقصيدة صارت نبضًا
لا ترندًا
والحب
الحب صار ارتباكًا مقدّسًا لا إعلانًا تجاريًا
فالشعور حين يُعلن
يفقد دمه

أدركتُ أنني حين أكون وحدي
أكون أكثر حضورًا

في هشيم الصمت
لا أحتاج أن أشرح نفسي
ولا أن أبرّر حزني الذي لا يعرف اللغة
ولا أن أبتسم حين لا أرغب
كأنني أخلع قناعًا لم أكن أعلم أنني أرتديه
وأتنفّس من رئةٍ لا تطلب إذنًا لتتنفّس

أكتب الآن من قلبٍ هادئ
من عقلٍ لا يلهث خلف القبول
من روحٍ وجدت في الغياب حضورها الأجمل
كأن الضوء لا يُرى إلا حين يُطفأ الضجيج
وكأن الضجيج لا يُطفأ إلا حين يُنسى الجمهور

أنا لستُ ضد أحد
لكنني ضد أن أُقاس بمقاييس
تتغير كل موسم
ضد أن أُصنّف في رفوف
كمنتجٍ قابلٍ للتداول
وأرفض أن أُباع في مزاد الرأي العام

العزلة ليست جدارًا
بل نافذة
أطلّ منها على نفسي
وأرى كم كنتُ غريبًا عني

وهكذا
كلما ابتعدتُ عن الضجيج
اقتربتُ من الضوء
وأستطيع
إذابة اسمي في وهجٍ لا يحتاج توقيعًا.

  • شاعر وكاتب فلسطيني
    وُلد في درعا عام 1983، لاجئٌ فلسطيني يقيم في سوريا، ويحمل في قلبه وطنًا غائبًا لا يفارقه، تمامًا كما لا يفارق الماء سيرة النهر. يعيش في المزيريب حيث تتداخل الذاكرة مع تفاصيل الحياة اليومية، فيكبر الحنين معه، ويكبر المعنى. يعمل في الشركة السورية للاتصالات، يمدّ الخيوط بين الناس، لكنه يجد اتصاله الأعمق في الشعر؛ فهناك يتنفس، وهناك يبحث عن المعنى الذي لا تمنحه الخرائط ولا تمنحه المهن. في الكتابة يفتح أبوابًا للضوء، ويصنع مسارًا خاصًا بين الصرامة العملية وحرية القصيدة. هاوٍ للشعر، محب للنصوص الوجدانية والفلسفية، يقلب الكلمات كما لو كانت أطيافًا تتشكل بين يديه، ويجعل من يومه طقسًا روحيًا يوازن فيه بين واقعٍ يفرض قوانينه، وخيالٍ يشرّع نوافذه بلا حدود. يحمل شغفًا لا ينطفئ، ويكتب ليظل حاضرًا في وجه الغياب، وليبقى الضوءُ ممكنًا مهما طال الليل.

اقرأ أيضا

أترك تعليقا

سجّل اسمك وإبداعك، وكن ضيفًا في محافلنا القادمة

ندعو الأدباء والشعراء وسائر المبدعين إلى أن يُضيئوا حضورهم بيننا بتسجيل أسمائهم وتعمير الاستمارة التالية، ثم النقر على زر «أرسل» ليكون اسمكم ضمن قائمة الدعوات إلى تظاهراتنا الثقافية القادمة — حيث يلتقي الإبداعُ بنبض الحياة، وتُصاغ الكلمةُ في فضاءٍ يليق بكم وبأحلامكم.