1 في زمن تتشابك فيه القيم، تتسارع فيه الأحداث وتضيع فيه المعاني بين ضجيج التقنية وسرعة الاستهلاك، يغدو حضور أستاذ تكريم برسالة لا تنطفئ أستاذ الفلسفة رسالة تربوية لا تُحال على التقاعد أكثر ضرورة من أي وقت مضى، ضرورة أخلاقية قبل أن يكون حاجة معرفية. فهو الذي يُعيد للمدرسة رسالتها الأصلية: أن تكون فضاء للتفكير والتربية معا، لا مجرد معمل لتخريج مهارات تقنية. ومنذ أن وُجد التعليم، ظلّ أستاذ الفلسفة يمثل ضمير المؤسسة التربوية وعقلها النقدي. فهو الذي يُعلّم التلميذ كيف يفكر، لا بماذا يفكر؛ وكيف يسائل الحقيقة، لا كيف يحفظها. يعلّمه أن السؤال أصل الوعي، وأن الشكّ هو بداية الطريق إلى اليقين. إن الفلسفة، في بعدها التربوي، ليست ترفا فكريا ولا حرفة نظرية، بل هي تمرين على الحرية الداخلية، وبناء لقدرة الإنسان على الاختيار المسؤول. ولهذا فإن أستاذ الفلسفة لا يلقّن الدروس، بل يعلّم كيف يُمارس الفكر كفنّ للحياة، وكيف يتحوّل السؤال إلى طاقة وجودية تقود نحو المعنى. فهل يُحال النشيد، أو القلق، أو التوتّر الكينوني على المعاش؟ بهذا السؤال لا نودّ أن نفتتح مجرد تكريم، بل أن نُعلن، من عُمق الأسى والامتنان، أن بعض الكينونات لا تدخل أرشيف المؤسسات، لأنها تتجاوز حدود الزمن الإداري لتسكن الذاكرة الحيّة والخيال الفلسفي. فأستاذ مادة الفلسفة لم يكن يدرّس الفلسفة، بل كان يُقيمها في الوجدان، يبعثرها في الكلام، ويزرعها في الجسد، لا كمعرفة تُلقّن، بل كمحنة وجودية يتورّط فيها من يقترب. وفي هذا الأفق، كان أستاذنا، لا كمثقف نقدي فقط، بل ككائن جريح يحمل في صوته آثار الحروب المعرفية والوجودية، ويجعل من الفلسفة نشيدا حيّا، عصيا على التقاعد. لقد شكّل أستاذ الفلسفة عبر التاريخ ركيزة أساسية في بناء الوعي الإنساني والتربوي. فهو لا يكتفي بتعليم المفاهيم المجردة، بل يعلّم التلميذ كيف يفكر، وكيف يُمارس النقد، وكيف يطرح السؤال الذي يفتح أبواب المعرفة. وحتى بعد أن يُحال إلى التقاعد، يظلّ حاملا لهمّ السؤال، منشغلا بالقراءة والنقاش، مؤمنا بأن الفكر لا يُمكن أن يتقاعد ما دامت الحياة تسائلنا. كم من تلميذ استعاد صدى كلمات أستاذه بعد سنوات، وكم من فكرة زرعها فأنبتت وعيا جديدا في جيل لم يعاصره. تلك هي ديمومة الرسالة التربوية، التي لا تنتهي بخروج المعلم من المدرسة، بل تبدأ حين يغرس فكرَه في قلوب تلامذته. حين يرحل أستاذ في الفلسفة، لا يُطوى برحيله فصل من التعليم، بل تُفتح صفحة جديدة من الإصغاء المختلف. فالفيلسوف الحقيقي لا يُختزل في دروسه، ولا يُحبس في مؤلفاته، إنه يزرع ما يتجاوز الكلمات، وما يبقى بعد غياب الجسد. فأثره لا يُقاس بما دوّنه، بل بما أيقظه في العقول والقلوب: ذلك الارتعاش الأول أمام السؤال، وتلك الدهشة التي تُعيد ترتيب علاقتنا بالعالم. فكم من تلميذ حمل في أعماقه صدى عبارة قالها أستاذه يوما، وكم من فكرة نبتت بعد سنين لتثمر وعيا جديدا في أجيال لم تلتقه. تلك هي ديمومة الرسالة التي لا تحدّها قاعة ولا عمر وظيفي. يعد هذا التكريم لشخصه تكريما للتربية في أنبل معانيها، وتقديرا للمؤسسة التربوية بوصفها مكانا لتكوين الإنسان قبل المواطن. من هنا، فإن الحديث عن كل أستاذ عزيز ليس تأبينا، بل تأمّل فيما خلّفه من يقظة فكرية، من حسّ بالمغايرة كشرط للوجود، ومن فهم للفلسفة لا كمعرفة جاهزة، بل كمغامرة دائمة في المجهول. إنه من أولئك الذين يعلّموننا أن التفكير ليس حرفة ذهنية، بل شكل من أشكال العيش بشجاعة. وهو الحكيم الهادئ الذي زرع في دروبنا ضوء الفكرة، فصار أثره فينا لا يُقاس بالسنوات، بل بالوعي الذي تركه خلفه. فالتفلسف عنده ليس مهنة تُمارس وفق جدول زمني، بل هو نمط عيش، وموقف من العالم، واحتفاء دائم بالسؤال والدهشة. فيما يلي محاولة للإنصات إلى ما تبقّى منه فينا، ذلك الصدى الذي لا يُرى، لكنه يستمر في تعليمنا كيف نكون أوفياء للفكر، لا بتكراره، بل بمواصلته. ما يبقى من أستاذنا العزيز ليس مجرد أثر في الذاكرة الأكاديمية، ولا بصمة عابرة في سجل الفكر، بل هو ذلك الحضور الذي لا يُختزل في اسم أو نص أو قاعة درس. لقد تجاوز الأستاذ حدود الزمان والمكان، وانتقل إلى ما بعد التعليم الظاهر، حيث يتحول الفكر إلى نسغ خفي يسري في أرواح الذين لامسهم، فيجعلهم يُفكرون كما يُتنفّس، لا كما يُستظهر. لم يكن أستاذ الفلسفة يلقّن المعرفة، بل كان يوقظ السؤال. والسؤال، حين يُوقظ حقا، لا يعود ملكا لمن طرحه أولا، بل يتحول إلى قدر لمن التقط شرارته. لذلك فكل من مرّ بتجربته، لم يتعلّم الفلسفة فحسب، بل تعلّم أن يعيشها، أن يُقيم في توترها، في دهشتها، في مقاومتها لما يُقدّم على أنه نهائي أو مكتمل. ولم يكن فيلسوفا بالانتماء إلى نسق أو مدرسة، بل بالانحياز إلى الحركة الدائمة للفكر، إلى ذلك اللا استقرار الخلّاق الذي يجعل الفيلسوف يسكن في السؤال لا في الجواب. لقد كان يُمارس الفلسفة كما يُمارس البعض العشق: انفتاحا على الغياب، وإصرارا على الحضور فيما يتعذّر حضوره. والآن، أستاذنا يدرّس من حيث لا يُرى، لا يُدرّس بالقول، بل بالصمت الذي خلّفه وراءه. في كل فكر يتجرأ على الاختلاف، في كل طالب يتعلّم أن يشكّ دون خوف، في كل من يرفض أن يُفكّر ضمن ما يُملى عليه، هناك امتداد لذلك الصوت الذي لم يعد يُسمع، لكنه لم ينقطع. لقد علّمنا أن الفلسفة ليست ترفا عقليا، بل نمط وجود مضاد للركود، فعل حياة يقاوم التشيؤ، تمرين على أن نكون أكثر من مجرد تكرار لأنفسنا. لذلك نقول: لم يرحل الأستاذ الفيلسوف، بل اتخذ شكلا آخر من الحضور- حضور الفكرة حين تتحرر من صاحبها، وتغدو حياةً تمشي بيننا. وفي تكريمه، نحن لا نحتفي بشخص فحسب، بل نكرّم منظومة قيم تربوية تُؤمن بأنّ التعليم ليس تلقينا، بل تحريض على التفكير، وأنّ المعلم الحقّ هو من يوقظ العقول قبل أن يملأها بالمعارف. لذلك، يظلّ أستاذ الفلسفة- حتى بعد مغادرته الفصل- حارسا للفكر الحرّ، ومرشدا صامتا للأجيال التي تظلّ تتلمذ عليه في الحياة قبل الكتب. حين نقف اليوم لنكرّم أستاذ الفلسفة، فإننا لا نحتفي بشخص واحد، بل نحتفي بفكر ظلّ يقاوم النسيان، وبحضورٍ ظلّ يوقظ فينا شغف السؤال. نكرّمه لأنه علّمنا أن الكلمة ليست صوتا فحسب، بل مسؤولية، وأن العقل لا يزدهر إلا حين يتجرأ على التفكير. فهو المعلم الذي لم يكن يطلب الإجابات، بل يعلّمنا كيف نصنعها. المعلم الذي لم يُرِد من تلاميذه أن يشبهوه، بل أن يكونوا أنفسهم. إنه الحكيم الهادئ الذي زرع في دروبنا ضوء الفكرة، فصار أثره فينا لا يُقاس بالسنوات، بل بالوعي الذي تركه خلفه. فالتفلسف عنده ليس مهنة تُمارس وفق جدول زمني، بل هو نمط عيش، وموقف من العالم، واحتفاء دائم بالسؤال والدهشة. وحين يودّع زملاؤه دفاتر الدروس وملفات التقاعد، يظلّ هو مخلصا للفكر، قارئا متأملا، لا يهدأ له خاطر ما دام في الوجود ما يستحق التساؤل. ليس هذا التكريم احتفاء بشخصه فقط، بل تكريم لرسالة تربوية لا تعرف التقاعد، رسالة تؤكد أن التعليم الحقيقي هو إشعال الشعلة الفكرية في الآخرين، وليس مجرد نقل المعرفة. وهو احتفاء بقيم التعليم التي تؤكد أن دور المعلم لا ينتهي عند سن التقاعد، بل يستمر من خلال أثره الفكري والتربوي على الأجيال. احتفاء قيمٍ إنسانية تؤمن بأن التعليم فعل إشعال للعقول، لا حشو لها، وبأن المعلّم الحقّ هو من يوقظ الفكر قبل أن يلقّن المعرفة. ختام: الفيلسوف الذي يستمر بعد رحيلهإن الفيلسوف الحقيقي لا يرحل كما يرحل الآخرون. فغيابه ليس نهاية، بل انتقال من حضور الجسد إلى الأثر، من الحضور المادي إلى ما يمكن تسميته بـ “الوجود المتواطئ مع الذاكرة”. لقد أصبح عزوز فكرة تمشي، لا اسما يُذكر. لم يعد يدرّس من وراء الطاولة، بل من عمق التجربة التي زرعها في كل من أصغى إليه دون وساطة. هو الآن في صمت المكتبات، في ارتباك الطالب حين يواجه سؤالا لا إجابة له، في لحظة الصدق التي تجرّد الفيلسوف من ادعاءاته. إننا نسمعه حين نجرؤ على التفكير ضدّ أنفسنا، ونراه حين نعيد للعبارة حرارتها الأولى. لقد فهم عزوز ما فهمه هيدغر من قبل: أن الفلسفة ليست تراكما في المعرفة، بل استدعاءٌ للكينونة كي تُفصح عن نفسها. لذلك لم يكن يكتب ليؤرّخ، بل ليفتح شقًّا في السكون، ليترك المعنى ينزف قليلاً، كي نرى دمه في ضوء الفكر. هكذا يستمر. لا في صورٍ ولا في مقالاتٍ ولا في ذكرياتٍ رسمية، بل في كل تفكيرٍ يُولد من الألم، في كل مقاومةٍ صامتة ضدّ المألوف. إن أعظم إرثٍ تركه لنا ليس ما قاله، بل ما جعلنا نقوله نحن، بعد أن علّمنا أن نكون أوفياء للشرارة، لا للمعلم. لقد انطفأ حضوره الجسدي، لكن فكره لم يعرف النوم. ما زال يُدرّس، من حيث لا يُرى، حاضر في قلوبنا وأرواحنا. لا وداع بل استمراريةما يبقى من أستاذنا العزيز ليس دروسا مؤرشفة ولا مقالات منشورة فقط، بل هو حضور داخلي في كل من تلقّى منه جذوة السؤال، وفي كل من لم يعد يفهم الفلسفة إلا كممارسة حية. إنه يُدرّس الآن، من حيث لا يُرى، كما يليق بفيلسوف زرع المغايرة، لا كترف مفهومي، بل كضرورة للحياة. هوامش مرجعية: Gilles Deleuze & Félix Guattari, Kafka : Pour une littérature mineure, 1975. Friedrich Nietzsche, Die Geburt der Tragödie, 1872 — حيث يطرح نيتشه الثنائية بين الروح الأبولونية والديونيسوسية بوصفها رمزية للتوتر الإبداعي. انظر: Jean-François Lyotard, Le différend, 1983 — حيث يصف الفلسفة كصراع بين أنظمة المعنى. Georges Bataille, L’expérience intérieure, 1943. Michel Foucault, L’usage des plaisirs, 1984.