تتشرّف المجلة الرقمية نيابوليس بنشر نص تقديم تجربة الشاعر عبد الحكيم زريّر في الزّجل بقلم الناقدة فاطمة عبد القادر بعنوان “بحر الكلام ولؤلؤة الزّجل” الذي قدمته في تظاهرة منبر الشعر والأدب بنابل في دورته الثانية وذلك يوم الأحد 10 نوفمبر 2024 بالمكتبة الجهوية بنابل
أردت أن تكون قراءتي لإصدارات عبد الحكيم زريّر بعنوان “بحر الكلام ولؤلؤة الزجل” لما رأيته في مجموعاته من غزير الكلام وفيض المشاعر. هو اللؤلؤة النّادرة في الزّجل بتونس.
هو مربّ قضّى خمسة وثلاثين عاما في التّدريس في المدارس الابتدائية كابد خلالها ألوانا من الصّعاب جعلته ينظم فيها مجموعة من القصائد تصوّر معاناة المربّي عامّة من خلال تعامله مع الصّبية والأولياء والإدارة والبرامج والمتفقّد وهو ما دفعه إلى توثيقها في قصائد زجليّة ساخرة أحيانا تحمل في طيّاتها نقدا لاذعا، وهي النّصوص التي خصّص لها نصف مجموعته الأولى “عيون الكلام”.
عبد الحكيم زريّر الشاعر الزجّال وهو آخر الزجّالين في تونس بعد بيرم التّونسي وعلي الدّوعاجي، في رصيده أربع مجاميع شعريةٍ باللّغة الدّارجةِ وله في انتظار النّشر مجموعة خامسة بعنوان “هدير الكلام” جمعت اثنيْ عشر قصيدا تنوّعت أغراضها بين الإخوانيّات وأدب الرّحلة والمجتمع. كما له ثلاثةُ مناجد في قواعد اللّغة وفنونِها نحوِها وصرفِها ورسمها أرادها تتويجا لجهوده في تعليم النّاشئة.
هذا الشّغف باللّغة نحوا وصرفا ورسما لم يحل دون إتقانه أدبَ الزّجل هذا النّظمُ العاميّ الذي لا يختلف عن الشِّعر الموزون إلاّ بترك الفصحى. يحتلّ هذا الأدب مكانة هامة لدى الشّعوب…. باعتباره جنسا أدبيّا لا يقلّ أهميّةً عن الأجناس الأدبيّة الأخرى مثل الشّعر والقصّة والرّواية وهو النّمط الكتابيّ الذي شدّ التونسيّين والّذي يعتبر جانبا من تراثهم. وشاعرنا اليوم تأتي أشعارُه بلغة الحضر إذ إنّه عاش حياته بالمدينة ولم يفارقها وهي مدينة حمّام الأنف الّتي كتب عنها نصوصا توثيقيّة هي عبارةٌ عن أشرطة تحفظ ذاكرة المكان. عبد الحكيم زريّر ملتصق بحمام الأنف فهو عضو نادي إضافات العريق بها وأحد جلاّس مجلس السّيكلامان.
إن المتأمّل في كتابات الشّاعر الزجّال عبد الحكيم زريّر يلاحظ قدرة على تطويع اللّغة وبراعة فائقة في صياغة الصّور الطّريفة في نصوصٍ مختلفةِ الموضوعات جاءت على شكل رباعيّات وهو ما تميّز به عن غيره من القوّالة أو الزجّالة. كتب عبد الحكيم زريّر في مختلف الأغراض بأسلوب يلائم معنى الكلام وغاياته…ولأنه أحبّ هذا الكلام الهادف فقد عنون كتبه ب “عيون الكلام” “رحيق الكلام” “مرايا الكلام” “وينتهي الكلام” …ولكن الكلام لم ينته بل خلّف كلاما جمعه الشاعر في مؤلَّف يصدر قريبا هو (هدير الكلام).
إنّ الدّارس لكتب عبد الحكيم زريّر يلاحظ ثراء في النّصوص وإلماما بتفاصيل الأمر المحكيّ عنه وهو السّمة الغالبة على أزجاله إذ إنّنا نراه يتوسّع في ذكر التّفاصيل ودقائق الأمور ليُخرج النّصّ في غاية الكمال. ويمكن تقسيم أزجال عبد الحكيم زريّر إلى أقسام، فمنها ما يتحدث فيه عن نفسه وتجاربه ومتاعب مهنته بأسلوب هزليّ يذكّرنا أحيانا بالفنّان الفكاهيّ محمّد المورالي رحمه الله الّذي ترك بصمته في المجتمع التّونسي في سبعينات القرن الماضي كقوله في إحدى قصائده ( باش فادوني، بزوزين لِمْرايات فوق عيوني، وتسطير في الفقرات هام عبدوني، وشعر من قبّاعتي منتوف) ومنها ما يندرج في باب الإخوانيّات ذكر فيها علاقاتِه وصداقاتِه وأورد بين السّطور أسماء بعضِ أصحابِه وخاصّة تلك القصيدة الّتي رثى فيها صديقَه الكاتب والأديب محمد جوعو الّذي ترك لوعة في قلبه بعد وفاته… قصيدة عدّت عشرين صفحة سكب فيها بحارا من الدّموع وبراكينَ من الأحاسيس. كما كتب قصيدا لأبويه حبّا وعرفانا وتقديرا لما قدّماه له من تربية ورعاية ونصح وتوجيه. وفي جانب آخر من إبداعه العاميّ يحتفي عبد الحكيم زريّر بالمرأة احتفاء عظيما فيمنحها عمرا من الحبّ وسيولا من عبارات الغزل ويغدق عليها الوصف الجميل فيُعنْون قصائده المادحة لها ب (إنت جنينة) و (أنت الغلّة) و (حبّي مبدّع) و(محلاك) و(الزّين يفرّق).
وهو لم يكتف بالغزل بها بل أحسّ بمعاناتها فكتب عنها مجموعة كاملة عنْونها ب “المرأة الكادحة” وهي عبارة عن صور شمسيّة مذيّلة برباعيّات معبّرة عن معاناة المرأة في مختلف المجالات.
وما يبرز أهميّة هذا الكاتب اهتمام الأديب والنّاقد الأستاذ جلال المخ بكتاباته وإصداراته حيث كتب عنه مجموعة من الدّراسات جمعها عبد الحكيم زريّر في كتاب عنْونه ب (كلام على الكلام) كما أفرد دراسة للمرأة في شعره كانت موضوع أمسية أثّثها شاعرنا الزجّال في العيد العالمي للمرأة.
ومن أبرز ما قال النّاقد جلال المخ في شعره الذي يصلح مادة لأغان جيدة: (وفي رأينا أن كثيرًا من قصائده كما أسلفنا في مقال سابق أغانٍ جاهزةٌ في الباب العاطفيّ أو الفكاهةِ تنتظر ألحانا موسيقيّة وأداء بكل تحفُّزٍ. ولعلّ ذلك يحدثُ في قادم الأيّامِ والأعوامِ. واختيارُه لهذه اللغةِ المعاصرةِ يمثل في حدّ ذاته موقفا من عشراتِ القصائدِ الّتي تُكتب اليوم في الشّعر الشّعبي بلغة القرن التّاسع عشر ولا يكاد قارئها أو المصغي إليها يظفَر بطائلٍ من ورائها ما عدا الإيقاع والقعقعة.) (انتهى كلام الأستاذ جلال المخ)
لعبد الحكيم زريّر عين ملاحظة تركّز على بعض الظّواهر الاجتماعية المؤذية ظهرت في نصّه الأخير” ملاّ حالة” وكذلك قصيد “رينا ورينا” الّذي يصوّر أزمة فقدان المواد الغذائيّة وقصيد “جانا العيد” يبرز فيه انهيار المقدرة الشّرائيّة وعجز التّونسي أمام غلاء المعيشة وهو أيضا المصلح الاجتماعي الذي دعا الى اجتناب عدة آفات كالتّدخين و الخمر والقمار وعدّد مساوئ الوقوع فيها بطريقة هزليّة فهو يضع الإصبع على الدّاء ويشدّ انتباه السّامع بكل الطّرق لتوجيهاته ونصائحه كما ورد في قصيد * الدبّوزة إذ يقول (باش مسلّح، يسكر بالزّيتون مملّح، يخرج للشّارع يترنّح، سروالو ما يحكم فيه ).
كما كتب عبد الحكيم زريّر النصّ الصّوفي من خلال ترجمته لجزء من رباعيّات الخيّام تعدّ ثلاثين رباعيّة لتصبح نصّا فريدا لامعا كشف عن علم واسع باللّغة و مقدرة فائقة على التّقريب بين الفصحى والدّارجة وإحساس فيّاض بموجد الوجود إذ يقول في إحدى الرّباعيّات : (في فهمك حارو يا ربّي ،وإنت باين مش متخبّي، كل الخلق يدلْ عليك، أمر ما يطلب متنبي) .وبما أنّ الإنسان لا يثبت على حال فقد ظهرت في بعض نصوصه حالات من القلق الوجوديّ وهي نصوص تحدّث فيها عن ذهاب العمر وفنائه وعبثيّة الوجود حين ذكر المعاناة في العمل وفراغ العمر يقول بأسلوب ساخر ناقدا الجيل الحالي (هذا جيلْ؟ عنتر فاتح راكب فيل، ونفطة صارت أرخبيل، وحنبعل أصلو زْناتي) وتناول أيضا الجانب الاقتصاديّ من خلال الحديث عن قفّة المواطن وشكواه وغلاء المعيشة ويذكّرنا هذا بنصّ بيرم التّونسي المكتوب في ثلاثينات القرن الماضي هذا النّص الذي وصف انهيار المقدرة الشرائيّة وسوء الأحوال وانتشار الحاجة.
كما تُخرجه أزجاله أيضا وطنيّا وتونسيّا حدّ النّخاع حين تباهى بالمدن التّونسية والأماكن الأثرية وعدد مناقب الجهات وجمالها وهو ما ورد في قصيده الطّويل “سياحة وراحة” وقصيد “تونس” التي عرّف فيها بخصوصيّة كلّ ولاية من ولاياتها وهو أيضا ذاكرة تونس في المطبخ التّراثي حيث جمع في قصيده “الأكلة الشّعبية” كلّ الأكلات المعروفة في جيلنا وحتّى قبله في محاولة منه لحفظ هذا المخزون الثّقافي…
إنّ المكان لا يسعنا هنا كي نبحر في إبداع عبد الحكيم زريّر الواسع الثريّ ولكنّنا سنختم بقولنا إنّه الشّاعر الذي أخذ المشعل عن سابقيه في أدب الزّجل وهو الموسوعة التي لم تغفل عن ذكر شيء وهو حبيب المرأة ونصيرها ولعلّ ما يؤكد هذا أنّ القدر الأكبر من النّصوص جاء يذكر جمال المرأة كقصيدته “سحر عيون” ويشبّهها بالحدائق أزهارِها وثمارِها إلى جانب متفرّقات أخرى موثِّقة وساخرة وناقدة ومصلحة. ولقد خاتلنا بعنوانه الأخير وينتهي الكلام إذ أن عبد الحكيم زريّر كتب بعد هذه المجموعة نصوصا أخرى منها “البالة” و”ملاّ حالة” وغيرها وهي ضمن مجموعته الأخيرة” هدير الكلام”.
شعر عبد الحكيم زريّر من السّهل الممتنع، تحاكي نصوصه هذا الزّمن بجميع تفاصيله وأزماته، حافظ فيها على النّكهة المحليّة الّتي حضرت في جميع القصائد المطرّزة بالفكاهة وتقنيات الخيال.
أظهرته مجموعاته الشّعرية إنسانا مرحا محبّا للآخر، حريصا عليه، عاشقا، مصلحا، محبّا للكلمة التي جعل منها عناوين لمجموعاته الشّعريّة.
إنّ تجربة عبد الحكيم زريّر في الزّجل تستحقّ مزيدا من البحث والدّراسة لثرائها وتميّزها وتفرّدها باعتبارها مرآة للمجتمع والواقع تخدمه وتنطلق منه.
بقلم / الناقدة فاطمة عبد القادر
تونس
أضف تعليق