39 في مسار الأدب التونسي والعربي، قلّ أن نجد شاعراً جمع في كينونته بين وهج القصيدة ونَفَس الفكرة، بين التزام المثقف وتمرّد العاشق، كما فعل الصادق شرف، الذي اختار لنفسه اسمًا يُلخّص مسيرته: “أبو وجدان”. شاعرٌ خرج من رحم مدينةٍ مناضلة، منزل تميم، في الثالث والعشرين من ديسمبر 1942، ليحمل في حروفه وجع الأرض وشهقة الروح، ويُحوّل الشعر إلى موقفٍ وجوديٍّ ومشروع وطنيٍّ في آنٍ واحد. الطفولة والبدايات: جذور الوجدان منذ باكورة شبابه، حمل الصادق شرف قلمه كما يحمل الفلاح معوله، لا للزينة بل للفعل. كانت بداياته في مدينة قربة حين توّجه الرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1959 بجائزة الشعر، إيذانًا بولادة صوتٍ شعريٍّ لن يهدأ له بال. هناك، في مدارس اللغة العربية، تفتّح وعيه الجمالي على مفردات الأصالة، وتكوّن حسّه الوطني في تربةٍ مشبعةٍ بالعشق والعناد. وحين حمله القدر إلى الجزائر بين 1972 و1976 أستاذًا للغة العربية، عاد منها محمّلًا بروح الثورة الجزائرية وإيمانٍ عميقٍ بدور الكلمة في صناعة الحرية. الشاعر الذي أسّس ذاكرة لم يكن الصادق شرف شاعرًا فقط، بل كان مؤسسًا لفضاءات ثقافية ستبقى علامات في ذاكرة تونس. من مجلة «الأخلاّء» التي أسّسها سنة 1978 وجعلها منبرًا للمجتمع المدني قبل أن يصبح هذا المفهوم شعارًا سياسيًا، إلى المهرجان الوطني للشعر العربي الحديث بتوزر الذي تحوّل لاحقًا إلى مهرجان دولي، كان أبو وجدان يزرع الثقافة كما يزرع الفلاح النخيل في أرضٍ عطشى.لقد جعل من الشعر مؤسسة، ومن القصيدة فعلاً اجتماعيًا يُمارس لا يُتلى فقط. ومنذ ذلك الحين، صار اسمه مقترنًا بالريادة في تأسيس المهرجانات الثقافية، والمنتديات الأدبية، والمسابقات الإبداعية، إلى أن بلغ مشروعه الثقافي ذروته بتأسيس الأماسي الشعرية بجامعة الدول العربية (2016–2018) ومسابقة «من سيربح المليون هذا الشهر؟» التي موّلها من ماله الخاص، مؤمنًا أن دعم الأدب هو أسمى وجوه المواطنة. الشعر كموقف ومقاومة في ديوانه «شواطئ العطش» (1978) الذي نال به جائزة الدولة للشعر، ظهرت ملامح رؤيته الفكرية الأولى: الشعر ليس هروبًا من الواقع بل مواجهة له، واللغة ليست زينة بل سلاح. ثم تتابعت مجموعاته الشعرية التي تجاوزت الخمسين عملاً، من «بحجم الحب أكون» إلى «فلندخل أفواجا في دين الحب»، وكلها تؤكد أن القصيدة عنده كائنٌ من لحم التجربة ودم الحقيقة.في شعره، يمتزج الحنين بالتمرد، والحب بالرفض، والإنسان بالوطن. إنّه شاعر يكتب بالمعنى الذي وصف به درويش القصيدة: “أن تكون شاهداً لا متفرجًا“. لذلك لم يكن غريبًا أن يُكرّم ثم يُحارب، أن يُصفّق له الرسميون يومًا ثم يُسحب اسمه من قوائم المكرّمين في اليوم الوطني للثقافة سنة 1992، فقط لأنه اختار أن يكون حرًّا. المثقف المتمرّد والمجتمع المدني في زمنٍ كانت فيه الكلمة تُقاس بميزان الخوف، أصرّ أبو وجدان على أن تكون مجلته “الأخلاّء” منبرًا للحوار والتعددية، وأن يُعيد الاعتبار للفكر المدني في زمن الأحادية. فهو لم يرَ في الثقافة وسيلة ترفٍ، بل شرطًا للحرية. كتب في مقالاته ومؤلفاته السياسية مثل «لو تمقرطنا لما سقطنا» و«نعم أنا معارض» شعرًا يضجّ بالوعي والكرامة، مؤكدًا أن الإبداع لا يعيش في الظل ولا يزدهر في الأقفاص.لقد كان من أوائل من ربطوا الشعر بفكرة المجتمع المدني، حين جعل من الكلمة وسيلةً للبناء لا للتهديم، وللوعي لا للدعاية. وفي هذا، تماهت تجربته الشعرية مع نضاله الاجتماعي لتصنع منه صوتًا مواطنيًا بامتياز. لغة تحتضن الحبّ والاحتجاج لغة الصادق شرف لغة متوترة، صادقة، تتراوح بين الغنائية والاحتجاج، بين الحنين والصرخة. فهو يكتب عن الحب كما يكتب عن الحرية، بذات النفس المشبوب. في دواوينه مثل «اعطني حريتي» و«لن تطفئوا شمسي» و«لا لا لا لا لا لا لا.. للإرهاب الديني»، يتحوّل الشعر إلى مرآةٍ للوعي الجمعي، وإلى طاقةٍ أخلاقية تُقاوم الانحدار.يُمسك أبو وجدان بخيطٍ رفيعٍ بين الجمال والموقف، فيُعيد للقصيدة التونسية وهجها القومي دون أن يفقدها دفءَ الذات، ويزرع في اللغة بذورًا من الطفولة والعناد والعشق لتبقى قصيدته نداءً للحياة في وجه العبث. من الشاعر إلى الظاهرة ما يلفت في مسيرة الصادق شرف أنه تجاوز حدود الفرد المبدع ليصبح ظاهرة ثقافية. فقد كتب عنه النقاد التونسيون والعرب دراسات مطوّلة، من أمثال المولدي الشاوش، يوسف الحناشي، مصطفى بلمشري، وشافية محمد فرج، وكلّهم رأوا في تجربته مشروعًا متكاملاً للشعر العربي في بعده الإنساني والفكري.تنوّعت القراءات حوله بين البنيوية والنفسية والمقارنة، لكنّها التقت عند نقطة واحدة: أنّ شعر أبي وجدان هو شعر المقاومة بالمعنى الإنساني، مقاومة اللامعنى، والركود، والاستسلام، والسطحية. إرث لا ينطفئ منذ خمسين مؤلفًا بين الشعر والنقد والمقالة والرواية والمسرح، ترك الصادق شرف أثرًا لا يُمحى في الذاكرة الثقافية التونسية والعربية. إرثه ليس فقط في ما كتب، بل فيما أسّس من تقاليد ثقافية، وما غرس من قيم في الوجدان العام. لقد ظلّ يؤمن بأن الشاعر الحقيقي لا يُقاس بعدد قصائده، بل بعدد القيم التي يزرعها في الناس.هو اليوم، في عقده الثامن، ما يزال يكتب بيدٍ من نارٍ وندى، ويُخاطب الجيل الجديد بروح الأب الذي لم يخذله الأمل. فبين قصيدته الأولى «شواطئ العطش» وآخر أعماله «جدليات بين الوحي المحاصر والوعي المعاصر»، يمتدّ خيط من الإصرار، والعشق، والإيمان بأن الشعر فعل حياة قبل أن يكون فنًّا. خاتمة: شاعرٌ يكتب تونس بمداد الوجدان حين نتأمل تجربة الصادق شرف، ندرك أنّنا أمام شاعرٍ لا يشبه إلا نفسه. شاعرٌ حمل وطنه في صدره كما يحمل العصفور أغنيته، وكتب بالحبّ كما يُكتب التاريخ بالدم. لقد عاش الشعر كرسالة ومسؤولية، وجعل من الوجدان منهجًا ومن الحرية مبدأ.إنه أبو وجدان حقًا، شاعرٌ جمع بين الفكر والنبض، بين العناد والجمال، بين الوطن والقصيدة. وحين يكتب، لا يكتب بيتًا من الشعر فحسب، بل يخطّ سطرًا جديدًا في ذاكرة تونس التي أحبها حتى العطش.