137 يُعَدّ العصر الجاهلي من أبرز الحقب التي يتأسس عليها الوعي الأدبي العربي، إذ شكّل الشعر فيه المرآة الأصدق لحياة العرب، قيمهم، حروبهم، وعلاقاتهم الاجتماعية. وفي خضم هذه البنية الأبوية التي يسيطر عليها الرجال، برز صوت المرأة الشاعرة ليكشف عن حضورٍ لا يُستهان به، على الرغم من العوائق التي أحاطت به. فما مكانة الشاعرة في الجاهلية؟ وما سمات شعرها؟ وما الوظائف التي اضطلع بها؟ وكيف يمكن قراءة صوتها مقارناً بصوت الرجل في ضوء الدراسات الحديثة؟ هذا المقال يتناول هذه الأسئلة في ضوء منهج يُزاوج بين التحليل النصي والدراسة التاريخية، مع محاولة الإبقاء على البعد الشاعري في قراءة هذا الصوت، لأن النصوص التي تركتها المرأة الجاهلية لم تكن مجرّد وقائع، بل شظايا عاطفة، ورؤى ذاتية، وأصداء مجتمع متوتر بين الحرب والفقد. أولا : محددات العصر ومفهوم المرأة الشاعرة العصر الجاهلي – أي الحقبة السابقة لظهور الإسلام – هو الفضاء الذي تجلت فيه بنية اجتماعية قبلية، تُنظّمها قيم النسب والشرف والحرب والفخر. وكان الشعر الأداة المركزية لحفظ الذاكرة الجماعية وتثبيت القيم. المرأة الشاعرة في هذا السياق ليست مجرد موضوع غزل يردده الرجال، بل فاعل لغوي يكتب ذاته وصوت قبيلته. فهي تبكي فقيدها، تُحرض قومها، تدافع عن شرفها، أو تعبّر عن حبها. وبذلك، يظهر لنا أن الشعر لم يكن حكرًا على الذكور، وإن ضاق فضاء المرأة مقارنة بفضاء الرجل. ثانيا : ملامح حضور الشاعرة في المجتمع الجاهلي رغم أن القبيلة الجاهلية كانت مجتمعًا أبويًا، فإن المرأة حازت موقعًا مؤثرًا في بعض السياقات. كان رثاؤها يبكي الفقد، لكنها أيضًا كانت تُذكّر بالثأر، وتدعو إلى الحماسة. والشاعرة لم تُقصَر على الحزن وحده، بل صارت أحيانًا لسان القبيلة، كما في حالة صفية بنت ثعلبة الشيبانية التي وقفت في مواجهة كسرى تستنهض قومها. غير أن هذا الصوت لم يكن مسموعًا بنفس القوة التي حظي بها الرجل، لأسباب عديدة أهمها ضعف التدوين، التحفظ الاجتماعي، سيطرة الرجال على عملية النقل الشفوي، وانحياز كتب التراث لجمع شعر الرجال أكثر من شعر النساء. ومع ذلك، فقد وصلنا من صوت المرأة ما يكفي لرسم صورة مميزة. ثالثا : سمات شعر الشاعرات الجاهليات عند تأمل النصوص المنسوبة إلى الشاعرات، تتضح عدة سمات بارزة: العاطفة الصادقة: إذ يغلب على شعر النساء الحزن والرثاء، وهو رثاء مباشر يخلو غالبًا من المقدمات الطويلة التي اعتادها الشعراء الرجال. الوظيفة السياسية والاجتماعية: في بعض المواقف، تتحول القصيدة إلى أداة تحريض أو دفاع، مثل صفية بنت ثعلبة التي خاطبت قومها في معركة ذي قار. اللغة والصور: تُظهر النصوص صورًا حسية، واستعارات عاطفية، ومبالغة نابعة من الألم أو الفخر. الموضوعات: أبرزها الرثاء، التحريض على الثأر، الفخر القبلي، الغزل العذري أو الرمزي، والتعبير عن الألم الشخصي. الصوت الفردي: يميز شعر المرأة حضور الذات بشكل واضح—آلامها، صبرها، خوفها—مما يختلف عن الشعر الرجالي الذي كثيرًا ما يُعلي من النزاعات العامة. رابعا : أبرز الشاعرات ونماذج من نصوصهن صفية بنت ثعلبة الشيبانية (الحُجَيْجَة): وقفت رمزًا للمرأة السياسية، تحرّض قومها على مقاومة الفرس. من قولها: “أحيوا الجوار فقد أماتته معا / كل الأعرب يا بني شيبان”،وهو نص يكشف دورها في استنهاض القبيلة. الخنساء (تماضر بنت عمرو السلمية): أشهر شاعرات الجاهلية، اشتهرت برثاء أخويها صخر ومعاوية. في رثائها صخر تقول: “وإن صخرًا لتأتمّ الهداة به / كأنه علمٌ في رأسه نارُ”،وهي صورة بليغة تجمع بين الفخر والحزن. هند بنت عتبة: لم يكن شعرها في الرثاء فحسب، بل عُرفت بجرأتها وفصاحتها، وقدرتها على المحاورة والمواجهة اللفظية. هذه النماذج تُظهر أن صوت المرأة الشعري كان متنوعًا، يجمع بين الذاتية الفردية والدور الاجتماعي العام. خامسا : وظائف الشعر عند الشاعرات يمكن تحديد وظائف شعر النساء في الجاهلية في: الرثاء: التعبير عن الفقد وتخليد ذكر الميت. التحريض والثأر: دفع القبيلة للانتفاض والقتال. الفخر القبلي: إبراز الشرف والمكانة الاجتماعية. الغزل: ضمن حدود رمزية أو عذرية. التعبير النفسي: إظهار مشاعر الحزن، الحب، الانتظار، والحنين. سادسا : التحديات التي واجهت صوت المرأة ضياع الكثير من النصوص بسبب غياب التدوين المبكر. هيمنة الأعراف الاجتماعية التي حدّت من حرية القول. النقل الشفوي المتحيّز، حيث كان الرجال أكثر قدرة على حفظ شعرهم وتوثيقه. اختلاط الرواية بالأسطورة أو التشكيك في نسبة بعض الأشعار للنساء. سابعا : مقارنة مع الشعر الرجالي يتشابه شعر النساء والرجال في موضوعات الفخر والرثاء والتحريض، لكن يختلف في زوايا أخرى إذ أن: الرجل يركز على البطولة العسكرية والتاريخية، بينما المرأة تركز على الفقد الشخصي والعاطفة الأسرية. الغزل لدى الرجل أكثر جرأة وصراحة، بينما لدى المرأة أكثر تحفظًا ورمزية. المجاز عند المرأة ينبع من الحس العاطفي، بينما عند الرجل يرتبط بالمجد والأسطورة. خاتمة تكشف دراسة شعر المرأة الجاهلية عن صورة متعددة الأبعاد، فهي لم تكن مجرد صدى لصوت الرجل، بل صوتًا مستقلاً، صادق العاطفة، عميق الحزن، قادرًا على التحريض والتأثير. ورغم ما ضاع من نصوصها، فإن ما وصلنا يكفي لإثبات أن المرأة لم تكن زينة في القصائد، بل فاعلة في تشكيل الوعي الشعري والاجتماعي. إنّ استعادة هذا الصوت اليوم ليس مجرد بحث في الماضي، بل هو إعادة الاعتبار لصوتٍ حاول التاريخ إقصاءه. ولعل مهمة الباحثين الآن أن يفتشوا في الهوامش والنقول والشواهد، ليعيدوا للمرأة الشاعرة مكانتها في الذاكرة الأدبية. مراجع مختارة هيبا مصطفى جابر، صورة المرأة في الشعر الجاهلي: دراسة نسوية. حامد خليل مطر، المرأة في الشعر الجاهلي. عادل محمد أحمد محمد، شعر الرثاء في شعر النساء في الجاهلية وصدر الإسلام (دراسة وصفية). بشير يموت، شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام. موسوعة الأدب العربي، باب “الخنساء وصفية بنت ثعلبة”.