94 الحظ ليس ظاهرة عشوائية بالكامل كما يظن الكثيرون، بل يمكن تفسيره من منظور علمي بوصفه نتيجة مباشرة لتفاعلات معرفية وعصبية داخل الدماغ. فالإنسان لا يرى الواقع كما هو، بل كما تسمح له منظومته الذهنية والإدراكية أن يراه. عندما يتبنى العقل فكرة معينة عن نفسه وعن العالم، يبدأ بتوجيه الانتباه نحو الإشارات التي تتسق مع تلك الفكرة، ويتجاهل ما سواها. وهكذا، فإن من يؤمن بأن الفرص تحيط به، تصبح احتمالية ملاحظته لها أعلى بكثير ممن يعيش في إطار ذهني يتوقع الإخفاق أو العجز. من الناحية العصبية، يعمل الدماغ وفق آلية انتقائية دقيقة، حيث لا يعالج كل المعلومات المتدفقة إليه، بل يركّز فقط على ما يتوافق مع برامجه الإدراكية الحالية. هذا التصفية الإدراكية تفسّر لماذا يبدو بعض الناس “محظوظين” أكثر من غيرهم: وعيهم ببساطة موجه لاكتشاف ما يمكن أن يتحول إلى فرصة. أما في الفيزياء الحديثة، وخصوصًا في ميكانيكا الكم، فقد تبيّن أن الجسيمات الدقيقة — مثل الإلكترونات والتي تعد جزء أساسي من كل مادة في الكون، ولا تتصرف بطريقة ثابتة، بل تُظهر سلوكًا يعتمد جزئيًا على عملية المراقبة نفسها. هذا ما يُعرف بتأثير المراقب، وهو مفهوم يشير إلى أن فعل الملاحظة قد يغيّر من حالة النظام المدروس. وإذا قاربنا هذا المفهوم فلسفيًا، يمكن القول إن وعي الإنسان، بدوره، يعمل كمراقب يؤثر في “الاحتمالات” التي يتجلى منها الواقع. الحظ إذن ليس كيانًا غامضًا أو قوة خارجة عن السيطرة، بل نتيجة احتمالية تتشكل بفعل التوقع، والانتباه، وطريقة تفسير الدماغ والوعي للبيئة المحيطة. كل فكرة يحملها الإنسان عن نفسه تؤثر في اختياراته الدقيقة، وهذه الاختيارات الصغيرة تتجمع لتصنع مسارًا يبدو وكأنه نتاج الصدفة. في الحقيقة، الوعي هو الذي يوجّه الاحتمالات ويمنح بعض الأحداث حضورًا في الواقع دون غيرها. وإذ بمكاننا الان القول إن الحظ هو ميلٌ في شبكة الاحتمالات لصالح من يمتلك وعيًا متيقظًا وقدرة على توجيه انتباهه نحو الإمكانيات بدلاً من القيود. إنه تفاعل بين العمليات العصبية داخل الدماغ وبين المبادئ الاحتمالية في بنية الواقع نفسه، حيث يصبح العقل عاملًا مؤثرًا في تحديد ما يبدو عشوائيًا. بهذه الرؤية، لا يعود الحظ شيئًا ننتظره، بل عملية يمكن هندستها عبر توسيع الوعي وتدريب الإدراك على ملاحظة الأنماط الدقيقة التي تشكل الفرص في نسيج الواقع. الحظ إذن ليس لعبة مصادفات، بل تفاعل دينامي بين الوعي والعالم — بين الملاحظ والملاحَظ. ومن يملك الوعي الكافي لتوجيه انتباهه، يخلق في كل لحظة احتمالات جديدة، فيغدو “محظوظًا” لا لأنه استُثني من قوانين الواقع، بل لأنه أدرك كيف يعمل الواقع فعلاً.