الصفحة الرئيسية مقال فكري وفلسفي الإيروس السائل: لماذا نتجنب الحبّ وندمن الرغبة؟: كيف تحوّلت العلاقات إلى استهلاك بلا التزام؟

الإيروس السائل: لماذا نتجنب الحبّ وندمن الرغبة؟: كيف تحوّلت العلاقات إلى استهلاك بلا التزام؟

61 مشاهدات 3 دقائق اقرأ

في قلب الحداثة السائلة، كما يكشفها باومان، يتهاوى المعنى الأنطولوجي للعلاقة. لم يعد الارتباط حدث انفتاح للذات على ما يتجاوزها، بل تَحوّل إلى تواصلٍ هشّ، متقطّع، محكوم بإيقاع الاستهلاك الفوري وبتقنية الاختفاء. العلاقة، وقد فقدت كثافتها الوجودية، صارت محض واجهةٍ زمنية، تُمارَس عبر وسائط تُحاكي القرب كي تُلغي أثره في اللحظة نفسها.

فـ”التواصل” لا يُواصل، بل يُفكّك؛ لا يفتح مسافة اشتراك، بل يؤسّس مسافة عزل. إنّه آلية دفاعية ضد الانكشاف أمام الآخر، آلية حضورٍ بلا التزام، وشغفٍ بلا مسؤولية. إنّه شكل من الحدث من دون حدث، لأن السيولة تنفي إمكانية الأثر، والأثر يفترض بقاءً لا تحتمله السرعة. في زمن التواصل، يغدو الحب تجربةً استهلاكية تُقاس بقدرتها على ملء الفراغ، لا بعمقها، إذ تفقد العلاقة معناها التأسيسي لتغدو لحظة عبور تُعاد إنتاجها بلا أثر.

الإيروس نفسه لم ينجُ من هذا الانقلاب: لم يعد حركة خروج نحو الآخر بحثًا عن اكتمال، بل التفافًا دائريًا للذات حول نقصها، تستديم به رغبتها كي تظل ناقصة. كل علاقة، جسدية أو افتراضية، لا تقصد الاتحاد بل إعادة إنتاج المسافة الضامنة لاستمرار الرغبة كطاقة بقاءٍ داخل زمن بلا روابط.

في هذا الأفق، يُفرغ الإيروس من بعده الوجودي، ويُعاد تشكيله كوظيفة نفسية–اقتصادية. التواصل السائل ليس انفتاحًا، بل اقتصاد لتفادي الآخر. ما كان وعدًا بالخلود في العصور الصلبة، صار اليوم حذرًا من الثقل الوجودي، تبريرًا للهروب من أي أثر. الإيروس السائل هو الوجه الأكثر قسوة للحداثة: رغبة تتقن التبخّر بدل الاستمرار، وشغف يَحيا ليؤجّل فراغه، لا ليملأه.

الجسد في هذا النظام لم يعد مجال تجربةٍ، بل واجهة عرض. لا يُعاش، بل يُسوَّق. قيمته تُحدَّد بقدر ما يتيح من لذّة بصرية، لا بقدر ما يُعبّر عن كينونة. هكذا يُختزل الإيروس من علاقة بين ذوات إلى آلية في اقتصاد الرغبة، تُدار فيه الأجساد كسلع، وتتحوّل الذات إلى وظيفة في منظومة العرض والطلب العاطفي.

إن هذا التشظي ليس طارئًا، بل هو التعبير الأكثر صفاءً عن البنية العميقة للرأسمالية المتأخرة. فكما يُستبدل المنتوج بآخر أكثر إغراءً، تُستبدل العلاقة بأخرى أكثر إثارة، والذات تُعاد قولبتها بلا توقف وفق منطق السوق. لم يعد الإيروس طاقةً للحياة، بل أداة لإعادة إنتاج الاستهلاك. كل علاقة، كل رغبة، لا تنتهي إلى امتلاء، بل إلى دورة جديدة من النقص والتبديل.

في هذا الاقتصاد العاطفي، يُختزل الوجود إلى فعل العرض، ويُقاس الحضور بمدى الجاذبية. الجسد يُصبح مرآةً لرأسمالية اللذّة، والرغبة سلعة رقمية يُتحكَّم في إيقاعها عبر الصور والإشعارات. هكذا يذوب الإيروس في التقنية، ويتحوّل إلى طاقة عمياء تدور حول نقصها، بلا غاية سوى استمرار الدوران.

الحب، وقد انفصل عن الحدث، لم يعد إمكانًا للوجود، بل تدريبًا على الاستهلاك. ما يُقدَّم بوصفه حريةً فردية ليس سوى انضباط جديد داخل نظام اللذة. الذات لا تمارس رغبتها، بل تُمارَس بها؛ تستهلك الحب كما تستهلك السلعة، تحت وهم الاختيار الحر، وهي أسيرة ضرورة الاشتهاء المستمر.

الإيروس السائل، بهذا المعنى، هو اكتمال انحراف الرغبة عن أصلها: من طاقة للخَلق إلى وظيفة للتكرار؛ من انفتاح أنطولوجي إلى محاكاة استهلاكية. تتحوّل الرغبة إلى محركٍ للفراغ، والجسد إلى وسيلةٍ لإدامة غياب المعنى. الآخر لا يُطلّ كوجه، بل كواجهة؛ لا ككينونة، بل كصورة.

في الأفق الأخير للسيولة، لم يعد الإيروس حركة خروج، بل ارتدادًا على الذات. العلاقة لم تعد وعدًا بالامتلاء، بل اختبارًا للّاكتمال ذاته. الرغبة لم تعد تطلب غايتها، بل تُكرّر نفسها لتؤكّد وجودها. كل إشباعٍ نفيٌ للرغبة، وكل نفيٍ يولّد نقصًا جديدًا. الإيروس السائل هو اقتصاد الفراغ ذاته: لذةٌ تُنتج عطشها، وامتلاءٌ ينهار لحظة تحقّقه.

عند هذا الحد، يغدو الوجود تجربة في التلاشي: الحضور يذوب، الحب يُؤدّى، الذات لا تُبنى في الآخر بل في وعيها بخسارته. الرغبة لم تعد وعدًا بالخلاص، بل دليلاً على استحالته. فالإيروس، وقد صار سائلًا، لا يفتح على الجمال أو الله أو الآخر، بل على العدم نفسه: رغبة في الرغبة، لا طلبًا للامتلاء، بل لتأجيل النقص إلى ما لا نهاية.

هكذا يُختَتم مسار الإيروس في زمن السيولة: من اتحادٍ إلى استهلاك، ومن استهلاكٍ إلى فراغ، ومن فراغٍ إلى لذّة في العدم. إنّه الميتافيزيقا الجديدة للعصر السائل، حيث يتحوّل الوجود إلى أثرٍ بلا جوهر، والرغبة إلى حركة بلا غاية، والذات إلى سؤال يلتهم نفسه في صمت.

  • باحثة تونسية
    أستاذة وباحثة في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة دكتورا فلسفة بقسم الفلسفة بصفاقس

اقرأ أيضا

أترك تعليقا