الصفحة الرئيسية الفلسفة أماليا خالد تقول “يبدأ تأثير الغليان على وعيك اللاواعي!!”

أماليا خالد تقول “يبدأ تأثير الغليان على وعيك اللاواعي!!”

نص تأمّلي وفلسفي بعنوان "فوضى شاي المانجا"

134 مشاهدات 2 دقائق اقرأ

في صباحٍ تلامسه نسمات أيلول العليلة، يصبح كوب من شاي المانجا خيارًا مثاليًا لبداية اليوم. منذ اللحظة التي نضع فيها وعاء الماء على النار، يبدأ مشهد بطيء ومكرر، لكنه محمّل بمعادلات نفسية دقيقة. الغليان لا يحدث فجأة، بل يمر الماء بمرحلة انتظار طويلة نسبيًا، تتحرك فيها الجزيئات وتتصادم تدريجيًا، ومع كل تصادم تزداد سرعتها مع ارتفاع درجة الحرارة. العين المجردة قد لا ترى أي تغيير في البداية، تمامًا كما نشعر حين نكون على أعتاب حدث مهم؛ الكثير يحدث في الداخل قبل أن يظهر أثره في الخارج.

تنسحب لتحضير كوب فارغ وتضع فيه كيس شاي المانجا، ثم تعود لمراقبة العلامات الأولى للغليان: فقاعات صغيرة تتشكل في العمق وتختفي بسرعة. هنا، لم تعد مجرد مراقب، بل جزء من العملية نفسها، منغمس فيها من غير وعي. مع كل فقعة تصعد وتذوب، يبدأ تأثير الغليان على وعيك اللاواعي؛ تتسارع الأفكار وتتداخل، كما لو أن ذهنك يتماهى مع حركة الماء.

هذا ما يصفه الفينومينولوجيون: التجربة الحية تتشكل في اللحظة نفسها التي نعيشها، والوعي لا يقف على مسافة من الظاهرة، بل يذوب فيها ويتفاعل معها. ومع اقتراب الغليان، تزداد كثافة الفقاعات وانتظامها، كما لو أن العقل في ذروة نشاطه، تتدافع فيه المشاعر والأفكار بلا توقف. لا يوجد فصل بين “المشهد” و”المُشاهد”، بل تصبح تجربة الغليان انعكاسًا حيًا لحالة وعيك الداخلي، حيث تتدفق الأفكار بفعل تأثير الظاهرة نفسها.

ثم تصب الماء، ويبدأ مشهد آخر لا يُرى بالعين لكنه يُشعَر بعمق: جزيئات الماء الحارة تلامس سطح الكوب وتغلف كيس الشاي، لتبدأ عملية التبادل الحراري في أجمل صورها. ومع تغلغل الماء في الكيس وانبعاث رائحة المانجا التي تنتشر تدريجيًا، يتحول المشهد إلى درس مزدوج: علمي يخضع لقوانين الطاقة والحركة، وفلسفي–نفسي يكشف ديناميكيات العقل والوعي.

مع الرشفة الأولى، لا يقتصر تأثير الحرارة على الإحساس بالدفء الجسدي، بل تحدث تغيّرات فيزيولوجية محسوسة: تنتقل الحرارة إلى الأنسجة القريبة من الفم والحلق، ويعمل الدم على توزيع الدفء في الجسم، ما يؤدي إلى تنشيط الجهاز العصبي وتسارع خفيف في ضربات القلب، وهو ما يفسر شعور الانتعاش والوضوح الذهني.

مع مرور الوقت، يبرد الكوب تدريجيًا بفقدان الحرارة إلى المحيط، فتتباطأ حركة الجزيئات ويقل انتقال الطاقة. تعكس هذه العملية قانون الإنتروبيا: كل نظام يميل بطبيعته نحو التوازن، فتنتقل الحرارة من المركز الساخن إلى المحيط البارد، وتنتشر الطاقة لتصبح أقل تركيزًا وأكثر انسجامًا. وفي الوقت نفسه، يتباطأ النشاط الذهني؛ الأفكار التي كانت تتدفق بسرعة تبدأ بالتناغم مع تصاعد البخار الهادئ من الكوب، لتصبح تجربة حيّة تجسد التوازن الطبيعي بين الحركة والهدوء.

حرارة البداية تشعل الأفكار الفوضوية في ذهنك، تتصادم وتتدفق كما تتحرك جزيئات الماء في الغليان، ومع برودة الكوب تدريجيًا يبدأ العقل بالاستقرار والتصفية، فتتبقى لبّ الأفكار فقط. كل رشفة تصبح لحظة من الانغماس الحسي والفكري، حيث يتناغم وعيك مع حركة الجزيئات، وتتحول التجربة إلى أكثر من مجرد شرب شاي: إنها انعكاس حي لتدفق وعيك وحركتك الداخلية.

مع ارتشاف الرشفة الأخيرة، يبقى الطعم حاضرًا، لكنه يتحول إلى صدى داخلي يدعوك للتأمل: كيف تتحول الأشياء من حالة إلى أخرى؟ وكيف تكشف اللحظة الصغيرة عن عمق حياتنا الداخلية؟ كل رشفة تقودك نحو الانتباه والصبر، وتجعلك تدرك جمال التفاصيل اليومية، لتفهم أن أبسط اللحظات تحمل دروسًا في توازن العلم والطبيعة والوعي الإنساني. وما يبدأ بفوضى وحرارة، يهدأ تدريجيًا ليأخذ شكل النظام والسكينة.

  • كاتبة أردنية
    من مواليد 8 يوليو 1999، حاصلة على درجة البكالوريوس في الفيزياء من الجامعة الأردنية. كاتبة ومؤلفة كتاب “إنتروبيا”، وتكتب مقالات ومونولوجات تهتم بالعلوم و الفلسفة .

اقرأ أيضا

أترك تعليقا