12 تقديم النص الشعري هذه القصيدة تسكن فضاء الرثاء الوجودي للوطن، وتُصوّر بلغةٍ مشحونة بالعاطفة والرموز حال أمةٍ فقدت وجهها، وتغرّبت عن ذاتها، حتى غدت أرضها وسماؤها تتبادلان الشكوى. هي صرخةُ شاعرةٍ ترى في الواقع العربي مرآةً للانكسار والخذلان، وتعبّر عن وجعها بلسانٍ متأنٍّ، يجمع بين بلاغة الصورة وصدق الوجدان. تبدأ الشاعرة بمفتتحٍ يذكّر بنبوءات الانهيار: «من علامات الساعة»، وكأنها تعلن أن ما يحدث ليس مجرّد أزمة سياسية أو اجتماعية، بل نهايةٌ رمزية للمعنى وللحضارة. فالأوطان في نظرها لم تعد موطنًا، بل كائنًا جريحًا «يشكو الغربة، يبحث عن بنيه بين الزحام». إنّها صورة إنسانية للوطن الأمّ الذي ضلّ أبناؤه طريقهم إليه، وانفصلوا عن جذورهم الروحية والثقافية. ثم تتدرّج الشاعرة من العام إلى الأعمق، فترسم لوحة الانحطاط الحضاري: «حضارتها العريقة باتت هباء، ضاعت في متاهات الجهل، صارت ركام». هنا تتحوّل اللغة إلى مرثية للتاريخ، فالمجد الذي كان يزهو بالأصالة والضياء، أصبح طللًا تذروه رياح النسيان. وتبلغ القصيدة ذروة الألم حين تقول الشاعرة: «والدوحة الغراء فيها طلّقها الربيع، يان عنها هدل الحمام». الصورة هنا آسرة ومؤلمة؛ فالربيع الذي يرمز للحياة والنماء انقطع عن الأرض الطيبة، والحمام، رمز السلام والصفاء، غادرها. لقد صار الوطن أرضًا عقيمة لا تحتضن سوى الحنين. ثم يأتي نداء السماء — «يا وطنا كُسر بداء التَطاحن» — كصرخةٍ سماوية، لا من فم الشاعرة فحسب، بل من الكون نفسه الذي يعاني من جرح الوطن. هذا الأسلوب الحواري بين السماء والوطن يضفي بعدًا كونيًا على القصيدة، كأنّ الفقد لم يعد شأنًا أرضيًا بل جرحًا وجوديًا شاملًا. وتواصل الشاعرة تساؤلاتها: «لمن قمري؟ لمن نجمي؟ لمن غيمي يهطل خصبًا فيصفعه الجدب في كل عام؟». تتخذ هذه الأسئلة طابعًا وجوديًا وعاطفيًا في آنٍ واحد؛ فالطبيعة التي كانت مصدر حياة وغناء، غدت شاهدةً على موت الروح وانكسار الحلم. كلّ ما كان رمزًا للخصب — القمر، الغيم، الشمس — تحوّل إلى شاهدٍ على الخراب. وفي ختام القصيدة، يتحوّل الخطاب من الوطن إلى الأنا الشاعرة:«أنا الغريب وُئدت في رمس الشرور، أنا الغريب صرت حطام».هنا يبلغ الألم ذروته؛ فالشاعرة لا ترى نفسها خارج المأساة، بل جزءًا من هذا الانهيار، ضحيةً ومُدانةً في آنٍ واحد. الغربة لم تعد غربة مكان، بل غربة هوية وروح، إذ فقد الإنسان سماته وضلّ طريقه إلى ذاته، فانتهى إلى سؤالٍ معلّق: «فمن منكم ينصفني يا هذا الأنام؟». القصيدة، في جوهرها، ليست نواحًا على وطنٍ فحسب، بل تأملٌ عميق في معنى الانتماء والخذلان. لغتها تمزج بين الجزالة الكلاسيكية والصدق الحديث، وصورها تنبض بالرمز والوجع. إنها قصيدة وطنٍ جريح وشاعرةٍ منفيةٍ في وطنها، كلاهما يفتّشان عن ضوءٍ لا ينطفئ، وعن إنسانٍ لم تلتهمه العصور… [نيابوليس الثقافية] النص الشعري: من علامات السَاعة أوطان تشكو الغربةتبحث عن بنيهابين الزَحام حضارتها العريقةباتت هباءضاعت في متاهات الجهلصارت ركام والدَوحة الغرَاء فيهاطلَقها الرَبيعيان عنها هدل الحمام تساءلت السَماءذات حنينيا وطناكُسر بداء التَطاحنمتى تندمل كلومكهلاَ أسقطت ثوب الانهزام قل لي بريَكلمن قمريلمن نجميلمن غيمي يهطل خصبافيصفعه الجدبفي كلَ عام لمن شمسيوقد باتت عليلةبعد أن حاصرها الموت الزَؤام تنهَد والجرح ينزفأنا الغريبوُئدت في رمس الشَرورأنا الغريبصرت حُطامفقدت سماتيتهت عن نفسيفمن منكم ينصفنييا هذا الأنام