634 لا يمكن للمواطن العربي اليوم أن ينظر إلى ما يحدث في غزة بوصفه مجرد صراع سياسي أو مواجهة عسكرية عابرة. إنّه جرح أنطولوجي يطال وجوده في العمق، ويعيد طرح أسئلة فلسفية عن معنى الإنسان والحرية والكرامة في عالم تسوده العنف والاستبداد. فالفلسطيني هناك لا يعيش مأساته في عزلة، بل يختزلها في مرآة كبرى تعكس هشاشة الكرامة العربية وحدود القدرة أمام جبروت منظومة استعمارية متشابكة. غزة، إذن، ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل رمز فلسفي يختصر معاني الفقد، العجز، والخذلان الدولي، كما يختصر في الآن ذاته معنى التمسك بالحياة والوجود في وجه الموت. المواطن العربي، وهو يتابع المأساة، يعيش انقسامًا داخليًا عميقًا: بين شعور وجداني عميق بالانتماء، يدفعه إلى التضامن والانخراط النفسي، وبين إدراك واقعي حدّي بعجزه عن التأثير المباشر في مسار الأحداث. هذا الانقسام ليس مجرد أزمة وجدانية، بل مأزق وجودي يعيد طرح سؤال الإنسان الإنساني:كيف يمكن للذات أن تحافظ على حرّيتها الداخلية وهي ترى نفسها عاجزة عن رفع الظلم عن أخٍ آخر يعتبره امتدادًا لذاته؟ وهل يمكن للوعي بالعجز أن يتحوّل إلى طاقة مقاومة، أم أنّه محكوم بالانطفاء والركون إلى اليأس؟ الفلسفة تكشف أنّ المأساة الحقيقية لا تتجسّد في الخراب المادي وحده، بل في خطر تطبيع الصمت وتحويل اللامبالاة إلى قاعدة طبيعية للوجود. أخطر ما يهدّد المواطن العربي ليس السلاح وحده، ولا الاستبداد السياسي، بل هذا التآكل البطيء لمعنى الانتماء والكرامة. حين يصبح الألم الجمعي مجرد خبر عابر في شريط الأخبار، يكون الإنسان قد دخل مرحلة جديدة من الاغتراب: اغتراب عن ذاته، عن الآخر، وعن القيم التي تمنحه شرعية وجوده. لكن غزة، بما تحمله من صمود خارق، تمنح المواطن العربي إمكانًا آخر. فهي الشاهد الحي على قدرة الإنسان على قول “لا” في وجه العدم، على رفض الخضوع لآلة القهر، وعلى التمسك بالكرامة والحياة رغم كل الظروف. هذا الصمود لا يعكس بطولة محلية فقط، بل يوقظ فينا جميعًا سؤال الحرية والعدالة، ويدفعنا إلى إعادة تحديد علاقتنا بذواتنا وبالعالم. هل يمكن أن تبقى غزة مجرد “مأساة” أم أنها فرصة فلسفية لإعادة التأسيس، لإعادة اكتشاف أن الكرامة ليست مجرد شعار، بل أسلوب وجود يومي، واختيار أخلاقي مستمر؟ وفي هذا السياق، يبرز موقف المواطن التونسي، الذي يحمل إرثًا تاريخيًا وثقافيًا عميقًا تجاه القضية الفلسطينية. فلسطين في الوعي التونسي ليست قضية خارجية، بل جزء من الهوية العربية، ورافد من روافد الكرامة المشتركة. لذلك، مأساة غزة تستحضر إحساسًا مضاعفًا: من جهة وعي بجرح يتجاوز الحدود ليطال مصيره الشخصي، ومن جهة أخرى إدراك للعجز العملي عن التأثير في موازين القوى الدولية والإقليمية. غير أنّ المواطن التونسي يحوّل هذا العجز إلى فعل رمزي: في الشارع، في الكلمة، في الفن، في الموقف الثقافي والسياسي الرافض للتطبيع. وهنا يتجلّى البعد الفلسفي لموقفه: الكرامة ليست معطى جاهزًا، بل تُصنع عبر رفض الصمت والاستسلام، وتصبح ممارسة يومية للتضامن والمقاومة، ولو بالحد الأدنى الممكن. من هنا، يتبين أنّ المقاومة ليست بالضرورة قوة عسكرية، بل قدرة الإنسان على المحافظة على وعيه، على رفض اللامبالاة، وعلى تحويل الألم إلى فعل أخلاقي مستمر. غزة إذن ليست مجرد مأساة محلية أو عربية، بل تجربة كونية، تضع الإنسان العربي أمام أسئلة جوهرية عن معنى المواطنة، والهوية، والحرية. هل المواطنة العربية مجرّد انتماء شكلي داخل حدود قطرية؟ أم هي وعي وجودي يربط المصائر ويؤكد وحدة الكرامة والحرية؟ وهل يكتفي المواطن العربي، والتونسي على وجه الخصوص، بأن يكون شاهداً على المأساة، أم يتحوّل إلى ذات تاريخية تستعيد حقها في الفعل والمقاومة، ولو بأبسط الإمكانات؟ إنّ الأسئلة التي تطرحها غزة ليست أسئلة سياسية فحسب، بل أسئلة وجودية قبل كل شيء:– ما معنى أن أكون إنسانًا إذا كنت عاجزًا عن نصرة إنسان آخر؟– ما جدوى الهوية إذا لم تُترجم إلى فعل مقاومة للظلم؟– وهل يمكن أن تنبعث الكرامة من رحم العجز واليأس؟– كيف نعيد بناء وعينا الجمعي في عالم يختزل المصير الإنساني إلى مصالح القوى الكبرى؟– هل يمكن للإنسان أن يحافظ على كرامته وكرامة الآخر في زمن يسيطر فيه العنف والفوضى على كل حدود العدالة؟ غزة لا تقدّم أجوبة جاهزة، بل تضعنا جميعًا أمام مسؤولية التفكير والمواجهة: فهي تختبر وعينا، تصوغ مصائرنا، وتطرح سؤالًا صارخًا: هل نحن أمام لحظة سقوط أخلاقي شامل، أم أمام إمكان بعث جديد لإنسان يعيد اكتشاف معنى المقاومة، الحرية، والكرامة؟ إنّ غزة تعلمنا أنّ المقاومة الحقيقية لا تُقاس بالأسلحة أو بالقوة السياسية وحدها، بل بقدرة الإنسان على رفض الصمت، حماية الكرامة، وتحويل العجز إلى فعل مستمر، ولو بالحد الأدنى الممكن. وفي هذا الصمود، وفي كل صرخة تُرفع في وجه الظلم، يظهر جوهر الفلسفة: أنها ليست مجرد تفكير نظري، بل ممارسة يومية للحرية، وإعادة تعريف معنى الإنسانية في زمن الانكسارات.