الصفحة الرئيسية قصيدة النثر زاهر الأسعد من فلسطين يقدّم نصّا بعنوان “صمتٌ يتذكّر”

زاهر الأسعد من فلسطين يقدّم نصّا بعنوان “صمتٌ يتذكّر”

108 مشاهدات 1 دقائق اقرأ

أسيرُ
الخطىُ تحيط بي كسورٌ من نورٍ
كتبني قبل

الطريقُ يتحوّلُ ذاكرةً
تنقّب عني في صمتِ الحجارةِ
وتعيدُ اسمي كلما انزلقَ النورُ بين الحصىِ

ظننتُه ساحةً أزرعُ فيها دفءَ قلبي
فإذا به يكتبُ خطواتي كوشمٍ لا يُمحى
يغرسُ الأثرَ في الأرضِ
ويعلّمها أن تحفظَ أسماءَ العبورِ

أذكرُ طريقَ الزيزفونِ القديمِ
حيث جلستُ أعدُّ الحروفَ كمن يعدُّ الزادَ
كأنَّ هناك حفظَ أسماءَنا
ليعيدَها عند كلِّ مرورٍ

في أيامِ التشقّقِ لم تذبلِ الذكرى
بل انعقدت صلابةً مضيئةً
تضيءُ عتمةَ الغيابِ

أجوبُ البلدةَ فأعرفها بعينٍ مغلقةٍ
بيوتٌ متلاصقةٌ كحروفٍ من طينٍ
شبابيكُها تبتلعُ ضوءَ الظهيرةِ
وأبوابُها تحفظُ أصواتَ الرجالِ والخبزِ
بساتينٌ خلفَ الأسوارِ
زيتونٌ ورمانٌ تجهدان للصمتِ
تمرُّ أنابيبُ استجرارِ الماءِ تحتَ خطواتنا
تهمسُ بحكايا السقي في أمسياتٍ لا تنطفئ

الرسائلُ التي عَلَّقتها على جدارِ الصمتِ
تحوّلتْ إلى أبوابٍ تُفتحُ من الداخلِ
فتقودني ذاكرتي إليّ

كلُّ هبةٍ قدّمتُها لم تُهدرْ
كانت بذرةً في شقوقِ الطريقِ
والنورُ الذي أرسلتُه لم يمتْ في عيونِ العابرين
بل نثرَ مواقعَ استيقاظٍ خافتةٍ

واليدُ الممتدّةُ التي اعتقدتُها عبئًا
صارت جسرًا ذا وزنٍ يصنعُ توازنَ الذاكرةِ
مددتُه فأعادَ الذاكرةَ أن تقفَ وتُسندَ

جاءتِ الدهشةُ كقبلةٍ تُراجعُ ثمنَها
لتكشفَ أن العطاءَ ليس صدىً يُقاسُ
بل قدرةُ السبيلِ على أن يحفظَ ما نُوّدِعُ فيه

التراجعُ ليس هروبًا
بل ترميمٌ للصندوقِ الذي فيه وفرتُنا

أعدتُ تفسيرَ الذاكرة
لم تعدْ هباءً
بل مثقَلةً بالغيابِ تتخمّرُ
حتى تصبحَ أثرًا يُقرأُ عند المارةِ
قرأتُ آثارَ أبي على عتبةِ البيتِ
حين عدتُ بعد غياب

تعلمتُ أن الحبَّ يُمنحُ
فالرحيلُ أحيانًا ختمٌ يسدُّ صفحةً
كي تبقى الخطى كوشمٍ على الحجرِ

أعماقُ الأشياءِ تقرأها الأيامُ بصبرٍ
فلا يُقاسُ الوجودُ بما يظهرُ
بل بما يبقى بنبضٍ مخفٍ

يبقى السؤالُ معلّقًا
هل كانت وفرتُنا نورًا دفينًا
أم أثرًا بنتْه الأرضُ لتقرأَه الأقدامُ؟

أجيبُ أحيانًا بذكرى بسيطةٍ
طفلٌ يبيعُ جرائدَ الصباحِ
امرأةٌ تبسطُ حناءً على يدٍ متعبةٍ
وجوهٌ تمرُّ فتعودُ في ذاكرةِ الطريقِ
لتخبرني أنني لم أكن وحدي في العطاءِ

في صمتٍ يعتّقُ كالخلِّ
أستشعرُ أن الوفرةَ لا تذوبُ إن وضعتُها في سبيلٍ تحفظُهُ
وأن الغيابَ حين يمرُّ على طرقٍ تحفظُ الخطى
يتركُ ندبةً تُقرأُ كخارطةٍ للوجودِ

شاهدًا أننا مررنا
وأحببنا ولم ننسَ
وتعبنا ولم نرتَح
وعدنا وعدنا ولم نصل…

لكن الطريقَ حين يحفظ أثرَنا
يعلنُ أن الوصولَ ليس محطةً
بل حضورٌ يتكرّرُ في كلِّ خطوةٍ
وأن الوفرةَ التي تركناها في صمتِ الحجارةِ
هي الخلاصُ الذي يبقى بعد الغيابِ

الشاعر زاهر الأسعد

  • شاعر وكاتب فلسطيني
    وُلد في درعا عام 1983، لاجئٌ فلسطيني يقيم في سوريا، ويحمل في قلبه وطنًا غائبًا لا يفارقه، تمامًا كما لا يفارق الماء سيرة النهر. يعيش في المزيريب حيث تتداخل الذاكرة مع تفاصيل الحياة اليومية، فيكبر الحنين معه، ويكبر المعنى. يعمل في الشركة السورية للاتصالات، يمدّ الخيوط بين الناس، لكنه يجد اتصاله الأعمق في الشعر؛ فهناك يتنفس، وهناك يبحث عن المعنى الذي لا تمنحه الخرائط ولا تمنحه المهن. في الكتابة يفتح أبوابًا للضوء، ويصنع مسارًا خاصًا بين الصرامة العملية وحرية القصيدة. هاوٍ للشعر، محب للنصوص الوجدانية والفلسفية، يقلب الكلمات كما لو كانت أطيافًا تتشكل بين يديه، ويجعل من يومه طقسًا روحيًا يوازن فيه بين واقعٍ يفرض قوانينه، وخيالٍ يشرّع نوافذه بلا حدود. يحمل شغفًا لا ينطفئ، ويكتب ليظل حاضرًا في وجه الغياب، وليبقى الضوءُ ممكنًا مهما طال الليل.

اقرأ أيضا

أترك تعليقا

سجّل اسمك وإبداعك، وكن ضيفًا في محافلنا القادمة

ندعو الأدباء والشعراء وسائر المبدعين إلى أن يُضيئوا حضورهم بيننا بتسجيل أسمائهم وتعمير الاستمارة التالية، ثم النقر على زر «أرسل» ليكون اسمكم ضمن قائمة الدعوات إلى تظاهراتنا الثقافية القادمة — حيث يلتقي الإبداعُ بنبض الحياة، وتُصاغ الكلمةُ في فضاءٍ يليق بكم وبأحلامكم.