الصفحة الرئيسية قصيدة النثر زاهر الأسعد من فلسطين يقدّم نصّا بعنوان “محراب الفقد”

زاهر الأسعد من فلسطين يقدّم نصّا بعنوان “محراب الفقد”

255 مشاهدات 1 دقائق اقرأ

الصمتُ علَّمني
السيرَ على حوافِ الحروفِ
والغيابَ كيف أنصت

أبي
نبرةُ الصمتِ التي تعلَّمتُ منها الكلام
صوتهُ نَفَحَةُ ملحٍ تذوبُ في النهاراتِ
دعاءٌ يهبُّ من صدرِ حجرٍ
فتنبُتُ بذرةٌ في الجرحِ
تُعلنُ ورقةً مشبعةً برائحةِ مطرٍ

حين تركتَ يده في جيبي
صِرتُ أعرفُ الطريقَ
علَّمَني المشيَ في عمقٍ لا يُحصى
خطواتُهُ غبارٌ يوقظ الحروفَ
من سُباتها

كأنها تسبيحٌ تختبئ في طيّاتِ اليدِ وتهمس
اصغِ

تركني لصفحاتٍ تُنيرُها همساتُ الليالي
بحبرٍ من بقايا حريقٍ وحنينٍ
كذكرٍ خفيٍ يهمس في منتصفِ السهرِ

في ظلِّ الحائطِ مأوىً لرمادٍ خارجِ الزمنِ
سؤالٌ يفيقُ على اسمي ويغفو
ينقشُ اسمي على الهواءِ

كأنّ الحروف تستجمع أنفاسها

فتنقشعُ
عندَ عتبةِ السرائرِ

كأنّي أمسحُ نقشَ اعترافٍ عن وجهِ ماءٍ
صارَ ولادةً من سكونٍ
ونوافذُ الانتظارِ شقوقٌ تبتلعُ الضوءَ

ثم تترك فراغًا يهيئ للولادة

فتعيدهُ طاهراً

المشيُ
هناك كتابةٌ
على الرملِ باسمٍ من سكونٍ
لا ينكسرُ بل يسبّحُ

ألمحهُ في ظلّ الزيزفونِ
كحرفٍ سقطَ من كتابٍ لم يُكتب بعدُ
عيناهُ بحيرتانِ تبتلعان الضحكَ

كأنّ الصدى يمدّ خيطًا بينهما

فتردّانهُ تسبيحًا

قلبي وديعةٌ
ارتوَت روحي من كفِّه
ثم رُجعتُ بستارِ انتظارٍ طويلٍ
شوقُه فخٌّ للزمنِ
يقفلُ الشفاهَ
ويفتحُ في الصدرِ بابًا
لا يدخلُ منهُ إلا الملحُ

علَّمني الفقدُ أنَّ الدمعَ سجدةٌ
وأنَّ البكاءَ هندسةُ قُبلةٍ تُعيدُ تشكيلَ الوجودِ

حين أُبوح تدخلُ يدهُ الخفيّة الكلامَ
كمن يحرّر حجرًا فيكشف نقشًا من نورٍ
يغمسُ الدمعَ طقسًا
فيحوّلُ الجرحَ إلى بذرةِ ذكرٍ

ذاك موئلٌ تُدفنُ فيهِ الكلماتُ حتى تولدَ حكمةٌ وتعودَ ذكرى
أمسكتُ بيدهِ لأتعلمَ دفنَ الضحكِ كي ينبتَ زيتونًا مِرّاً
ثمرُهُ صمتٌ

يورّثُ الليلَ أدواتِ الفقدِ
تصيرُ الآلامُ فيهِ تراثًا من صلاةٍ على عتبةِ السكونِ
أرسمُهُ في مأوىِ السحبِ فتتبدّدُ ملامحه داخلَ الجبينِ
وتبقى نغمةٌ

أربطُ طريقي بمطرِ عينيه
فتَصِرِ العودةُ خريطةً للحبِّ المكتومِ
أغلقُ فمَ النصِّ كي لا يبتلعَ آخرَ أنفاسِ الكلامِ

ليفتح الطريق لصورة أخرى

بل يجعلها وردًا

نحنُ
أنا وهو
والضياءُ
والماءُ

نؤسّسُ محرابًا صغيرًا
حيث يُبارَكُ الحزنُ بدلَ أن يُدانَ
حين ينهضُ الرَّحيلُ من أثَرِه
يصبحُ حجرًا تُغرَسُ في القلبِ
فتزهرُ سؤالًا كذكرٍ

الجسرُ بيني وبينه ليس مسافةً
بل تساؤلٌ
يُوزَنُ بالألمِ والرحمةِ
ذاكرةٌ تصنعُ حاضرَها من نشيجٍ قديمٍ

فأيُّ معنىٍ يتركُ الفقدُ خلفَهُ؟

ومن هناك يبدأ الانحناء

ثم علَّمَني أن أرحلَ وأنا واقفٌ
كأنني صلاةٌ تُقامُ

أن أقيمَ خيمةً في زاويةِ نفسي
وأسميها محرابًا
أن أكونَ القصيدةَ ونقيضَها
ومفتاحًا وسِرًّا في آنٍ واحدٍ

أمسَكتُ بيدهِ لأتعلمَ دفنَ ضحكتهِ
كقنديلٍ مكسورٍ أعيدهُ فجرًا
هي الوصيةُ: كن رحيلًا
اتركْ فراغًا يحوّلُ الوجعَ إلى لغةٍ تُفهمُ بالنورِ والليلِ

الفقدُ مدرسةٌ
فيه ولدتْ معرفتِي
وفيه صار قلبي قصيدةً
يقرأُني كلما أنصتُّ إلى العدمِ

الشاعر زاهر الأسعد

  • شاعر وكاتب فلسطيني
    وُلد في درعا عام 1983، لاجئٌ فلسطيني يقيم في سوريا، ويحمل في قلبه وطنًا غائبًا لا يفارقه، تمامًا كما لا يفارق الماء سيرة النهر. يعيش في المزيريب حيث تتداخل الذاكرة مع تفاصيل الحياة اليومية، فيكبر الحنين معه، ويكبر المعنى. يعمل في الشركة السورية للاتصالات، يمدّ الخيوط بين الناس، لكنه يجد اتصاله الأعمق في الشعر؛ فهناك يتنفس، وهناك يبحث عن المعنى الذي لا تمنحه الخرائط ولا تمنحه المهن. في الكتابة يفتح أبوابًا للضوء، ويصنع مسارًا خاصًا بين الصرامة العملية وحرية القصيدة. هاوٍ للشعر، محب للنصوص الوجدانية والفلسفية، يقلب الكلمات كما لو كانت أطيافًا تتشكل بين يديه، ويجعل من يومه طقسًا روحيًا يوازن فيه بين واقعٍ يفرض قوانينه، وخيالٍ يشرّع نوافذه بلا حدود. يحمل شغفًا لا ينطفئ، ويكتب ليظل حاضرًا في وجه الغياب، وليبقى الضوءُ ممكنًا مهما طال الليل.

اقرأ أيضا

أترك تعليقا

سجّل اسمك وإبداعك، وكن ضيفًا في محافلنا القادمة

ندعو الأدباء والشعراء وسائر المبدعين إلى أن يُضيئوا حضورهم بيننا بتسجيل أسمائهم وتعمير الاستمارة التالية، ثم النقر على زر «أرسل» ليكون اسمكم ضمن قائمة الدعوات إلى تظاهراتنا الثقافية القادمة — حيث يلتقي الإبداعُ بنبض الحياة، وتُصاغ الكلمةُ في فضاءٍ يليق بكم وبأحلامكم.