406 مقدمة: ورد في البيان والتبيين لأبي عثمان الجاحظ ما يلي: «فنون القول في صناعة الشعر طويلة و العمر قصير»، وهو يعني بذلك كثرةَ ممُكنات التّعامل مع اللغة في الشّعر واتّساع مجالات توظيفها إلى درجة أنّ العمر لا يكفي للإمام بها والإيتاء عليها، بما يفضي إلى لا نهاية التجديد والابتكار فيها على مرّ الزّمن، وبالتالي ما يولّد لا محدوديّة عيار التّقييم لمدى جودتها ودرجة مهارة أصحابها في سبك الخطاب الشّعري وحبكه. بذلك يظلّ الشعر عموما، وشعر عصر الحداثة وما بعدها، مِن تجريب يقصر العمر عن خوض بحره وشقّ غمره، كما يقصر عن الإلمام بجزئياته وكلّياته، خاصّة في واقع عربيّ مأزوم شهد انفجارا في كلّ شيء بما في ذلك الكتابة على اختلاف أجناسها وخاصة الشّعريّة منها، وبشكل خاصّ تلك المنسوبة إلى المرأة. ورغم هذا السّيل غير المسبوق من الشعر النّسائي في تونس تحديدا، استطاعت أحلام بن حورية ابنة حمام الغزاز وجارة البحر أن تحوز لنفسها مكانا لا بأس به في هذا الوسط الزّاخر بالأصوات النّسائيّة في تونس وفي البلاد العربيّة، رغم أنّها تُعتَبر مُقِلّة من النّاحية الكمّية مقارنة بغيرها، وذلك من خلال إصداريها: مجادل (2020) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة تضاهي المجدليّة قدرا والمجدل سموقا. ومضت (2024) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة النّورانيّة، خاصّة وهي تضع له عنوانا هذه الجملة الفعليّة المبنيّة بلاغيّا على “جدليّة تجويع اللفظ وإشباع المعنى”. فإذا بها حمّالة تأويلات في إسناد الفعل: “ومض” إلى المؤنّث مطلقا. “ومض” هذا الفعل يعني في العربيّة «لمع لمعانا سريعا ومبهرا يخطف البصر فيُدهِش المُبصِر، وهو فعل البرق عنوان الخصب والخير والماء قوام الحياة، وكذلك فعل السّيف عنوان حفظ الكرامة وشرف الحياة». «أ صاحِ ترى برقا أريك وميضهكلمع اليدين في حَبيّ مكلّل _ معلقة امرئ القيس» فمن تكون أو ماذا تكون هذه الأنثى التي أُسنِد إليها فعل الوميض؟ وهل ومضت في سياق الحقيقة أم في سياق المجاز الذي يحقق جماليّة العدول في العبارة الشّعرية؟ وما هي تجلّيات فعلها في قصائد المجموعة الأربع والخمسين؟ العنوان وأصداؤه في المتن ومنزلة ذلك في تكوين الرّؤيا الشعرية: إذا افترضنا بداية أن التي ومضت هي القصائد المؤسِّسة لرؤيا الشّاعرة في الكتابة عموما، وفي هذه المرحلة من تجربتها خصوصا، نتبيّنها أساسا في مستويات ثلاثة: الإهداء، قصائد البدء والعَود، خصوصيّة اللّغة، اختياراتها وتوظيفاتها. وميض الإهداء: بطابعه الصّوفي في الارتقاء بالفعل الإنساني الخلّاق، تثمينا وإجلالا إلى مراتب النّورانيّة من خلال رمزيّة اليد / الكفّ النّيّرة وما تعنيه من دلالات خاصّة في علاقتها بالإنجاز والإنبات، تأصيلا وتجذيرا وخلقا.«إليك وإلى كلّ مَن يسكب ضوءا في كفّه لِيُنبِت ذاته»ولعلّ الكتابة بهذا المعنى شكل من أشكال الإنبات النّيّر في مواجهة ظلمات القعود والخمول وتصحّر المعنى. وميض قصيدتي البدء والعَود على بدء:فالقصيدة الأولى (ص 13) تردّدت عبارة “الشمس” خمس مرات مع “القمر” و”الشعاع“، في مقاربة بين الذات الشاعرة المؤنّثة وبين النّورانيّة.«أنا امرأة… تنقش شامات على وجنات قصائدها… تقف في قلب الأعاصير لهبا كالشّمس...» والقصيدة ما قبل الأخيرة (ص 96) حملت عنوان المجموعة وقامت أيضا على اتّسام الذات بهذه السمة النّورانيّة: «ومضت… مثل شمس فركت وجنتيها»، لتعلن قرار المُضيّ في عرك الحياة الانثويّة بنور الشّعر توّاقة نحو الأمثل: «مضت… تناجي ربّها ساجدة.. تُعِدّ بروقا تُشِعّ على جانبيها». والأمثل الذي يمثّل نصّا «لم يُكتَب بعدُ» استشرفته القصيدة الأخيرة (ص 98): “رصاصٌ“، والتي وضعت للكتابة “النورانيّة“، أو بمعنى آخر، ذات الوميض وظيفة المقاومة: «ما لم تفعله الممحاة… بقلم الرّصاص… وما بقى من طلقات بقلم الرّصاص». بذلك سيّجت الشّاعرة تجربتها في هذه المجموعة بوميض أناها المرأة، التي يطغى انسانها وشاعريتها على أنوثتها، فتشرق بالوميض وبه تنجز وتبدع وتقاوم وتلاحق ظلمات آنفة بممكنات آتية، وهي تدسّ خبايا المحاولة في تفاصيل القصائد التي توسّطت مجموعتها، متوسّلة بخطاب شعري خاصّ بها، قوامه توظيفات للّغة. وميض الاختيارات اللغوية وطرق توظيف تيماتها ومرجعيّاتها:تَجويد صُوَرها ودلالاتِها نَجَلّيه في النزعة الاستعراضيّة، في عودة الشاعرة إلى أعلاق العربيّة المعتّقة في أشعار القُدامى والنّصّ القرآني، تستميح منها معجمها المتين وتراكيبها ذات البلاغة الفائقة، شأنها في ذلك شأن مجموعتها الأولى (مجادل). نادرة ما نجد في الشعر الحديث استعمالا للمعجم الحوشيّ، مثل: «قصيدة تونس ص 39:تاؤها تفتّحت في قُرَيعائهاوأغلقت أثباجها.. ثمّ نادت في الدُّجَنابتسمي.. ستندمل الجراحُوتَينَع الغَيناء ثانية...» (القريعاء: الأرض الخالية من النباتات، الأثباج: وسط الشّى حين يتكتّل، الدّجن: الغَيم الكثيف، الغَيناء: الشجرة كثيفة الأغصان والأوراق). ونادرا أيضا ما نجد إحياء لمثل هذه الاشتقاقات والصيغ المستنبطة من لغة القدامى، التي حفلت بها قصائد الشاعرة بشكل استثنائي في مجموعتيها:«ص 21: مُرَكمِجًا آماله، ص 22: مِرصافة الوقت، ص 25: شجّرتها واشتجرتها، ص 67: الهذّاءة، ص 38: تلك ال “لماذا” التي “تُلملذ” فقاقيعها التّائهة، ص 95: أنا الشّامس…» فكان في هذا الاستخدام لمعاجم وعبارات نادرة الاستعمال إخراج لها من مجاهل النّسيان لتظهر إلى النّور، فتتجلّى وتومض في القصائد بما تُكسبه للّغة من ألق، يتكامل مع ما زخرت به من بلاغة المحسّنات البديعيّة، التي سجّلت ظاهرة مُلفتة في قصائد المجموعة (وأيضا في مجادل). فنجد المفارقات تشغل حيّزا كبيرا من استخدامات اللّغة، تجسّد جدليّة الظّلام والضّياء في العديد من التّمظهرات التفصيليّة المتعلّقة بمواضيع الشّكوى والتذمّر من واقع الذاتّ والمرأة والشّعر والمجتمع والوطن وحتى الوجود، ومن جهة أخرى بما تطمح إليه رؤاها المتمرّة أبدا، الباحثة عن شعاع الشمس الذي يمرّ على الكون فيزيح عنه الكدر، وعلى الوطن فيضيء زواياه المعتّمة، وعلى الشّعر والكتابة فيحلّق بهما إلى مشارف ذاك «النّصّ الذي لم يُكتب بعدُ». بعض القصائد بنيت كاملة على المفارقات المتنوّعة من مقابلة وطباق، مثل قصيدة: «بعين الغيم ص 22:أطلّ من جفوة وسنيوشمسي بجوف اللّيل سارحةتغنّي بأنواري..ينفلت حرفي الذي كان محصورا بأروقتيوتزغرد على مَجادل الأحلامقصائدي وأشعاري…» وتتكامل المفارقات في الارتقاء بلغة الخطاب الشعري مع ضروب المجانسات اللفظيّة والتّركيبيّة، لتُحقّق مقتضيات الشّاعريّة فيها من تنغيم إيقاعي وما تستوجبه مضامين التّغنّي بالذات «ص 13: أنا امرأة.. / تضفر شَعرها شِعرا وفلسفة»، والحب «ص 93: المكسور.. يريد أن يُثبت لها أنّه الأضحية وأنّها السّكّين / المسجور.. مازال يحبو نحوها / وخزعبلات في صدره تنزَع وِشاح صمتِها»، والوطن «ص 92: تواعدنا على حُبّ على عشق أراضيها / تَوادعنا هنا اليوم ولن أنسى أراضيها». اختيارات اللغة في المجموعة ساعدت على إكساب القصائد تألّقا فنّيّا إضافيّا، في إطار التركيبات الخاصّة بشعر أحلام بن حورية، والمتمثّلة في الجمل ذات التركيب اللّولبي، القائم على تناسل مكونات الجملة، حتى تسع طول النفس الشّعريّ وتستوعب تشابك الأفكار والرّؤى، بل أحيانا تسع قصيدة بأسرها، مثل قصيدة «أرشاق ص 80»، التي تمتدّ على جملة إسميّة واحدة مركّبة. هذا خاصّة في القصائد ذات النزعة الاحتجاجيّة بمضامينها السّوداوية القاتمة، في تصوير واقع تونس وفلسطين والعرب «ص 65: قالت غزّة بلا رويّ ولا قافية.. أمشي وذي الأصفاد تثقل خطوتي، يشدّني الوجع.. كأنّه الحجر.. كأنّه الوتد…»، وفي تصوير أحوال الفئات المهمّشة في المجتمع «ص 74: وكان حلما…»، وكذلك في تصوير واقع المرأة المعقّد «ص 32: المدخنة بلا وجه.. بلا ومض.. بلا أرض.. بلا وطن، تمتدّد كالموت في الكلمات، كالسّوس الذي يسري في الحصاد، تنصب مشانق لبسماتي، تُطارد أحلامي وأنّاتي.. فيستفيق…». وقد واجهت الشاعرة قتامة صور الواقع في هذه النزعة الاحتجاجيّة بنورانيّة اللّغة، التي غلب عليها الاستعراض والنّخبويّة، باستخدام التشبيه والاستعارة لتحقيق جمالية العدول، أو ما يسميه الدكتور محمد الخبو “الغموض الشّفاف” (مدخل إلى الشعر العربي الحديث). استلهمت الشاعرة هذه الصور البلاغيّة من منظومات الكتابة والقيم والوجود والطبيعة، خاصّة السماويّة المنيرة، ممّا شفّ عن عالمها الشعريّ المنطلق من الذات والممتدّ نحو ما يحيط بها عبر اللغة، التي تنفّر من كلّ مظلم وتنحاز إلى كلّ مُشرق. من ذلك ما ورد في قصائد كثيرة، منها «في مهوى الرّياح ص 67:ما اسودّت البهجة يوماوما تسيّع ماؤهاإلّا إذا تكدّر في صحوها المطروذا مطرك ومقٌ مِن حريريتلألأ على خدّ القصيدة ولا يأبى الهطول…». خاتمة: تبقى دلالات فعل ومضت وحوافّه ذات صلة بالنّور، محورا واسما للخطاب الشعري في التجربة، كما نوّهت الأديبة فتحية دبّش: «حرصها الدائم على جعل مواضيعها متنوّعة، تنوّع انشغالات الفرد والجماعة، فهي التي تكتب للنساء كما للرّجال، للحبّ كما للحرب، للذات كما للآخر في حالتي الثّبات والتحوّل». تكتب ضمن تجربة محكومة بجدلية المسايرة والمغايرة، قصيدا هادفا، في غير انسياق وراء الشعارات والإيديولوجيا، ورومنسيا في غير انحباس داخل صوت المشاعر الفرديّة، ومتمرّدة في غير تطرّف أو حدّة في الخطاب. وتكتب ضمن سياقها التاريخيّ، محكوم بجدليّة العتمة والضياء (الوميض)، تارة تحتجّ على مكامن الحيف والرّداءة في الواقع التّونسي والعربي والإنساني، وطوراً تجنّح نحو الأفضل والأكثر عدلا وجمالا، أو لنقل الأكثر وميضا لمستقبل الشّعر والإنسان والأوطان. ثمّ هو وميض الكتابة، الذي يَدين لذاكرة الشعر العربي القديم والحديث في مختلف مراحله وتحولاته، ممّا أكسب قصائدها منسوبا مرتفعا من الإنشائية/الشاعريّة، ونزعة استعراضيّة حققت تميّز الخطاب وهيبة النص على أساس متين التركيب ضارب في الأصالة، ويُجايِل عصره، خاصّة في هذه التنويعة التي لا تزال تجرّب وتختبر وتُسائل مختلف طرائق الكتابة الشعرية (النثرية والموزونة)، في متلازمة بين فنون القول ومبدعتها، وما انعكس في ذاتها من أصداء حياتها وثقافتها وأحلامها. تلك أبرز ملامح الكائن الوميضي الذي تخلّق في قصائد الشاعرة أحلام بن حورية، وهو يحاول أن يخرج بنا من ظلمات المجتمع وحيفه، ومن الأدب المثقّل بمزالق تردّيه، ومن الوطن المكلوم بخيباته، والإنسان المُنساق نحو انحرافاته، إلى أنوار القصيدة الرّسالة الوضيئة، ضمن مسار اختارته الشاعرة لتجربتها، فومضت في مطبّاته المعتّمة، ومضت بين شعابه وفيافيه نحو الآتي من الرّؤى المتعلّقة بالكتابة خاصّة وبالإنسان والوجود عامّة، شعارها: «ص 16: حوريّة بلا واو، تصعد على ربوة الزّبد القديم، تعانق نسرا لا يستكين…»