الصفحة الرئيسية السينما بين الحقيقة و الوهم: مقاربة أفلاطونية لفلسفة الصورة في السينما المعاصرة.

بين الحقيقة و الوهم: مقاربة أفلاطونية لفلسفة الصورة في السينما المعاصرة.

258 مشاهدات 3 دقائق اقرأ

منذ بداية التأمل الفلسفي، شكلت العلاقة بين الحقيقة و الوهم إحدى أشد و أعمق الإشكالات التي تصدت الفلاسفة و المفكرين. و لربما أفلاطون كان من ضمن الأوائل الذين حاولوا فهم أصل هذه العلاقة عبر نظريته في المُثُل ووجهة نظره و موقفه من المحاكاة (الميميسيس)، إذ لاحظ أن الفن بما فيه من الصورة لا يعطي و لا يبلغ لنا الحقيقة بل ظلا للحقيقة، أي وهما و زيفا مزدوجًا.
واليوم، مع تقدم و تطور السينما المعاصرة و تحولها إلى وسيط بصري قادر على مراجعة و إعادة تشكيل العالم الواقعي و الإفتراضي على حد السواء، و يعود السؤال الأفلاطوني القديم ليطرح نفسه بشدة:
هل الصورة السينمائية سبيل للحقيقة، أم مجرد وهم رائع و جميل يحجب عنا الواقع؟

أولا: من كهف أفلاطون إلى شاشة السينما:
يعد تشبيه الكهف لأفلاطون مفتاحًا لفهم موقفه من الصورة. ففي هذا الكهف، يقبع السجناء مقيدين، لا يرون من العالم عدا ظلال الأشياء المنعكسة على الجدار أمامهم بتأثير النار المتأججة و المضطرمة خلفهم، تلك الظلال تجسد بالنسبة لهم الواقع كله، بينما الحقيقة (العالم الخارجي) تظل مجهولة.
وإذا نقلنا هذا التشابه إلى فضاء العرض السينمائي، ندرك تشابها دقيقا بين المتفرج الأفلاطوني و المشاهد السينمائي كل منهما يجلس في عتمة، يقابل سطحًا تعرض عليه صور متحركة ناتجة عن مصدر ضوء خلفي. بذلك تتغير القاعة المظلمة إلى كهف حديث، و تصبح الشاشة جدارًا فلسفيًا تلقى عليه ظلال الوجود.
إن ما لاحظه أفلاطون في الكهف من تضليل و خداع للحواس يعاد إنتاجه في السينما، غير أن السينما المعاصرة بخلاف الكهف تشكل من تجربة الوهم فعلاً واعيًا يفضل فيه الإنسان أن يعيش داخل الصورة، لا لأنه لا يعرف الحقيقة، بل لأنه يبحث عن شكلٍ جديدٍ لتجربتها.

ثانيا: من الميميسيس إلى الصورة الرقمية-تحولات الوهم:
لاحظ أفلاطون أن الفن محاكاة للعالم الحسي، الذي هو بدوره انعكاس للعالم المثالي، أي أن الصورة الفنية تبعدنا عن الحقيقة. بيد أن السينما المعاصرة، خصوصا بعد ظهور التقنيات الحديثة و الذكاء الاصطناعي خرقت مفهوم المحاكاة البسيطة لتدخل في ميدان و فضاء الخلق البصري، إذ لم تعد الصورة تنقل الواقع فحسب، بل تصنع عوالم جديدة لم تشهد من قبل.
في أفلام مثل Inception (2010) لكريستوفر نولان أو The Matrix (1999) للأخوين واتشوسكي، تتشابه و تتقارب الحدود بين الحقيقي و الوهمي، حيث صار السؤال الافلاطوني عن أصل الوجود أكثر راهنية: هل ما نراه حقيقي لأننا نعيشه، أم هو مجرد بناء ذهني تنتجه الصورة ؟
هكذا، تعيد السينما طرح الفلسفة الأفلاطونية في شكل معاصر، حيث الوهم ليس عكس الحقيقة، بل وسيطا لفهمها. هنا تلتقي أفكار أفلاطون القديمة مع مفاهيم جان بودريار عن “الواقعية الفائقة” (hyperreality)، إذ لا يعود التمييز بين الواقع ز الوهم ممكنًا، لأن الصورة نفسها أصبحت أصل الوجود الجديد.

ثالثا: الصورة كأداة كشف لا كحجاب: (الصورة كافق للمعرفة).
على الرغم من الإعتقاد السلبي لأفلاطون من الفن، فإن الفلسفة المعاصرة للصورة كما نجدها عند موريس ميرلوبونتي و جيل دولوز ردت الإعتبار للتمثيل البصري بوصفه شكلا من أشكال الفكر المتجسد.
يرى دولوز في كتابه Cinéma 1:l’Image-mouvement أن الصورة السينمائية لا تُقلد الواقع، بل تًفكر بالحركة و الزمن، أي أنها نوع وشكل من أشكال الفلسفة المرئية. هكذا لم تعد الصورة حاجزًا يحجب الحقيقة، بل فضاء لتجليها من خلال التجربة الإدراكية.
بهذا المعنى، يمكننا أن نقول إن السينما قد تجاوزت حدود الكهف الأفلاطوني، لا لأنها أنكرت الظلال، بل لأنها جعلت من الظلال أداة تفكير في معنى الوجود نفسه. الصورة إذن ليست وهما يضللنا بل مرآة معقدة تعكس هشاشة الحدود بين الواقع و الخيال.
فالحقيقة وفق هذا التصور، لا تستعاد بالخروج من الكهف، بل تكتشف داخله، عبر إعادة تأمل الظلال التي تصنع وعينا.

وفي الختام تبين المقاربة الافلاطونية لفلسفة الصورة في السينما أن العلاقة بين الحقيقة و الوهم لم تعد علاقة تضاد، بل علاقة جدلية، يتبادل فيها كل من الحقيقي و الوهمي أدوارهما، فالسينما لا تنفي الكهف الأفلاطوني، بل تؤنسنه و تحوله من فضاءٍ للوهم و الزيف إلى فضاءٍ للتفكير.
لقد أصبحت الصورة السينمائية، في زمن المحاكاة الرقمية، أداة أنطولوجية لإعادة تعريف ماهو حقيقي، بحيث تغدو الظلال نفسها طريقا نحو النور و من ثم، يمكن القول إن الفلسفة التي بدأت داخل الكهف لم تبرحه، لكنها تعلمت أن تفكر بالضوء.

  • باحثة وكاتبة تونسية
    باحثة دكتوراه في الفلسفة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس/ جامعة تونس المنار

اقرأ أيضا

أترك تعليقا