الصفحة الرئيسية مقال فكري وفلسفي بين الأصالة و التجدد: قراءة فلسفية لهوية بوعرادة في مفترق الوجود المعاصر.

بين الأصالة و التجدد: قراءة فلسفية لهوية بوعرادة في مفترق الوجود المعاصر.

10 مشاهدات 3 دقائق اقرأ

إن سؤال الهوية ليس عرضيا في الفكر الفلسفي، بل هو من أكثر الأسئلة إلتصاقًا بكيان الإنسان في العالم. فمنذ أن وعى الإنسان ذاته بوصفه كائنا في التاريخ، وهو يطرح على نفسه السؤال الوجودي العميق:

من أكون؟

تبدو بوعرادة بوصفها فضاءً جغرافيا و ثقافيًا ذا ذاكرة كثيفة، نموذجًا حيًا لتجليات هذا السؤال في السياق المحلي، فهي مدينة تختزن في طياتها تاريخًا من الأصالة الريفية و الذاكرة الجماعية، لكنها في الوقت ذاته تواجه تحديات التجدد التي تفرضها الحداثة، والعولمة، وتحولات القيم.

من هذا المنظور، لايمكن النظر إلى هوية بوعرادة كجوهر ثابت أو كيان منغلق على ذاته، بل بوصفها صيرورة وجودية مفتوحة تتأرجح بين نداء الذاكرة وضغط الزمن الحاضر. وهنا تبرز الإشكالية المحورية لهذا المقال:

كيف تتشكل هوية بوعرادة في مفترق الأصالة والتجدد؟ وهل يمكن للذات المحلية أن تحقق توازنها الوجودي بين الوفاء للذاكرة والإنخراط في الحداثة دون أن تفقد معناها الأصيل؟

أولا: الأصالة كحقيقة للوجود-الذاكرة بوصفها نمطًا للكينونة:

الأصالة (Authenticité) ليست مجرد تمسك بالماضي أو محافظة على التقاليد، بل هي كما يرى مارتن هايدغر في كتابه الكينونة و الزمان، حالة من الوجود الإنساني الفريد وهو مايسميه بـ”الدازاين” (Dasein) الذي يعيش فيه الإنسان ذاته كما هو، دون أن يذوب في “الناس” (Das Man).
الأصيل، عند هايدغر،هو ما يواجه وجوده الخاص بشجاعة، و يستمتع إلى نداء الضمير الذاخلي الذي يدعوه إلى أن يكون ذاته على نحو أصيل.

إذا نقلنا هذا الأفق الفلسفي إلى بوعرادة، يمكننا القول إن الأصالة في بعدها المحلي ليست مجرد تمسك بالعادات أو اللهجة أو اللباس، بل هي شكل من أشكال الوعي بالوجود المشترك، الوعي بأن المكان ليس مسرحًا عابرًا للحياة، بل هو حامل للذاكرة و للمعنى.

إن سكان بوعرادة في طقوسهم، في علاقاتهم الإجتماعية، و في لغتهم اليومية، يجسدون ما يمكن تسميته “الوجود المتجذر“، أي الكينونة التي تستمد معناها من الإنتماء إلى روحي و جغرافي محدد.
ومع ذلك، لا يمكن لهذه الأصالة أن تختزل في نوستالجيا للماضي لأنها بذلك تتحول إلى شكل من أشكال “السكون الوجودي“. فكما يوضح بول ريكور في الذات كآخر، فإن الذاكرة الأصيلة هي تلك التي تتذك لتعيد التأويل، لا لتعيد التكرار. بعبارة أخرى الأصالة ليست انغلاقًا، بل قدرة على استحضار الماضي كي نعيش الحاضر بعمق أكبر.

ثانيا: التجدد كشرط للوجود في العالم-نحو انفتاح انطولوجي على الحاضر.

على الطرف الآخر من جدلية الهوية، يقف مفهوم التجدد بما يحمله من بعد أنطولوجي عميق، فالتجدد ليس مجرد تحديث للوسائل أو تبديل للأطر، بل هو، كما يرى جان بول سارتر، مشروع وجودي.
فالإنسان ليس ماهو عليه الآن، بل ما يختار أن يكونه عبر فعله و قراراته، و هنا تبرز فكرة الحرية بوصفها لبّ الوجود الإنساني.

إنّ بوعرادة المعاصرة، بما تعرفه من تحولات اجتماعية و ثقافية و اقتصادية، تواجه هذا الأفق الوجودي الجديد. فالشباب على سبيل المثال، يجدون أنفسهم بين موروث ثقافي غني و بين عالم رقمي كوني مفتوح، بين الإنتماء للمكان و الرغبة في تجاوزه. و هذه المفارقة ليست سلبية بالضرورة، بل هي شكل من أشكال القلق الخلاّق الذي تحدث عنه هايدغر نفسه، إذ أن القلق هو الذي يوقظ الكائن نحو إمكاناته الأصلية.

من هذا المنطلق، يصبح التجدد في بوعرادة ليس قطيعة مع الأصالة، بل تجسيدا ديناميًا لها في صيغ جديدة. فالهوية التي لا تتجدد تموت، كما أن الهوية التي تنفصل عن جذورها تفقد معناها. و كما يقول تشارلز تايلور، الهوية ليست معطى طبيعيًا بل حوار مستمر بين الذات و العالم، بين الذاكرة و المستقبل.

ثالثا: جدلية الأصالة و التجدد في أفق الوجود المحلي.

إذا كانت الأصالة تمثل الذاكرة و التجذر، و كان التجدد يمثل الحركة و الإنفتاح، فإن هوية بوعرادة لا يمكن أن تُفهم إلا بوصفها جدلية بين الإثنين. هنا ننتقل من ثنائية الصراع إلى فلسفة التداخل، حيث يعاد تأويل الأصالة لا كماضِ منغلق، بل كإمكان مفتوح للتجدد المستمر.

يعبر ميرولوبونتي في فينومينولوجيا الإدراك عن الإنسان باعتباره كائنا في العالم، لا كوعي متعالي عليه، فوعينا بالعالم لا ينفصل عن الجسد و المكان و الزمان.. و عليه، يمكن فهم بوعرادة كجسد رمزي للوجود المحلي، تتجلى العلاقة بين الإنسان و المكان في اللغة، و السلوك، و الطقوس، و الذاكرة. لكن هذا الجسد لا يعيش إلا بالحركة، أي بالتجدد. فالهوية هنا ليست جحرًا، بل نهرًا ينساب بين ضفتي الأصالة و الحداثة.

تؤكد حنة أرندت أن الإنسان كائن للفعل (Homo agens) ،وأن الفعل هو ما يمنح الوجود الإنساني معناه في التاريخ. و بذلك يمكن القول إنّ بوعرادة لا تحافظ على هويتها من خلال الحنين إلى الماضي فقط، بل من خلال القدرة على الفعل الثقافي و الإجتماعي في الحاضر، في التعليم، في الفن، و العمل الجمعي، و المبادرات المدنية.
إن الأصالة الحقة لا تعني أن نبقى كما كنّا، بل أن نحافظ على معنى ما كنّا و نحن نتغير.

فكما يقول ريكور:

“إن الذات ليست من نكتشفها، بل من نبنيها عبر السرد الذي نحكيه عن أنفسنا.”

و بذلك تصبح هوية بوعرادة سردًا مفتوحا يشارك فيه الماضي و الحاضر و المستقبل في آنٍ واحدٍ.

تظهر القراءة الفلسفية لهوية بوعرادة أن الأصالة و التجدد ضدّين متنافرين، بل هما قطبا الوجود الإنساني في سيرورته نحو المعنى. فالأصالة تمنح الذات جذورها و التجدد يمنحها أفقها، و بين الجذر و الأفق تتشكل الهوية كحركة جدلية بين الذاكرة و الفعل، بين السكون و التحول. إنّ بوعرادة في عمقها الوجودي، ليست مدينة فحسب، بل رمز لكيفية سكن الأنسان في العالم، بين ما كانه و ما يصبو إلى أن يكونه. و من ثم، يمكن القول إن الوعي الفلسفي بهويتها المحلية ليس إنشغالا بالماضي، بل محاولة لإعادة بناء علاقة الإنسان بمكانه و زمنه في أفق من الإنفتاح التأويلي الخلاّق، حيث تلتقي الأصالة بالتجدد لتؤسسا معا معنى الوجود الإنساني المعاصر.

  • باحثة وكاتبة تونسية
    باحثة دكتوراه في الفلسفة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس/ جامعة تونس المنار

اقرأ أيضا

أترك تعليقا

سجّل اسمك وإبداعك، وكن ضيفًا في محافلنا القادمة

ندعو الأدباء والشعراء وسائر المبدعين إلى أن يُضيئوا حضورهم بيننا بتسجيل أسمائهم وتعمير الاستمارة التالية، ثم النقر على زر «أرسل» ليكون اسمكم ضمن قائمة الدعوات إلى تظاهراتنا الثقافية القادمة — حيث يلتقي الإبداعُ بنبض الحياة، وتُصاغ الكلمةُ في فضاءٍ يليق بكم وبأحلامكم.