نص القصيدة:
عَشِقْتُكَ رَبِّي، فَفَاضَ الدُّمُوعْ
وَسَارَ فُؤَادِي بِدَرْبِ الرُّجُوعْ
تَرَكْتُ الْهَوَى وَانْحنيتُ إِلَيْك
وَمَا لِي سِوَاكَ، بِقَلْبِي خُشُوعْ
تَجَلَّى ضِيَاؤُكَ فِي مُقْلَتِي
فَذُبْتُ اشْتِيَاقًا، وَرُوحِي شُمُوعْ
دَعَوْتُكَ سِرًّا، فَنَادَيْتَنِي
بِـ”عَبْدِي”، وَقَلْبُ الْمُحِبِّ يُطَاعْ
إِلَهِي، وَقَدْ ضَاقَ بِي كُلُّ بَابْ
فَأَنْتَ الرَّجَا، وَبَابُكَ لا يُمْنَعُ
أُحِبُّكَ حُبًّا يُفِيضُ السَّلَامْ
وَيَكْفِي فُؤَادِي، إِذَا مَا تُشَفَّعُ
رَأَيْتُكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ جَلِي
فَأَيْنَ الْمَفَرُّ؟ وَعَيْنَايَ تَدْمَعُ
أَيَا مَنْ إِذَا اللَّيْلُ سَدَّ السُّبُلْ
يُنِيرُ الْقُلُوبَ، وَيَهْدِي وَيَشْفَعُ
فَهَبْ لِي وِصَالًا يُدَاوِي الْجِرَاحْ
وَيُجْرِي فَمِي بِمَدًى لا يُقْطَعُ
إِلَهِي، سَمِعْتُ نِدَاءَ الْقُلُوبْ
تُنَاجِيكَ خُفْيَةَ، وَالدَّمْعُ سَكُوبْ
أَأَطْمَعُ فِي عَفْوِ مَنْ لَا يُرَامْ؟
وَأَسْأَلُ رِضْوَانَ مَوْلًى قَرِيبْ؟
فَإِنِّي ضَعِيفٌ، وَذَنْبِي كَثِيرْ
وَلَكِنَّ حُبَّكَ فَوْقَ الْعُيُوبْ
فَخُذْ بِيَدَيَّ، وَرُدَّ الضِّيَاعْ
وَكُنْ لِي أَنِيسًا، إِذَا الْكُلُّ غِيابْ
وَأَسْكِنْ فُؤَادِي حِمَاكَ الْأَمِينْ
فَإِنَّ الْأَمَانَ لَدَيْكَ يَطيبْ
قراءة في القصيدة
هذه القصيدة تصدر من نفسٌ متعلّقٍ بالله، وتترنّم بلحنِ التوحّد والرجوع. هي قصيدة دعائية—إن أردنا اصطلاحًا قديمًا—تأمّلية، تجمع بين العاطفة الصادقة والالتزام الروحي، وتستعمل صورًا بليغة لتجسيد حالة الانكسار والاشتياق والاعتماد المطلق على الله.
الموضوعات والمحاور
الحب الإلهيّ والاشتياق: البيت الافتتاحيّ («عَشِقْتُكَ رَبِّي…») يضع الحبّ الإلهيّ في محور التجربة، حبٌّ يطهّر العين ويهب القلب مسار الرجوع.
التوبة والخشوع: الشاعر يترك الهوى وينحني، ويعلن عن ضعف العبادة وكثرة الخطايا، لكن مع يقينٍ برحمة لا تُمنع.
الحنين إلى الوصال والعافية الروحية: تكرار طلب الوصال والشفاعة والوصال الذي «يُداوي الجراح» يبرِز رغبة في شفاءٍ روحيّ عميق.
الثقة برحمة الله: رغم الإحساس بالذنب، ثمة يقين أن الحبّ الإلهيّ «فوق العيوب»، وأن الباب مفتوحٌ للراجين.
الصور البصرية والرمزية
الدموع والفؤاد على درب الرجوع: دموع الشاعر ليست فقط حزناً بل وسيلةِ تطهّر وتدفق روحيّ. الفؤاد يسير «بدرب الرجوع» كناية عن المسار الروحيّ للقرب من الله.
الضوء في المقلة: «تجلّى ضياؤك في مقلتي» صورة مركزيّة: العين بوّابة الروح، والضوء رمزُ الهداية والوجود الإلهيّ الحيّ داخل الوعي.
الروح شموع: تشبيه جميل ومركّب: الروح تَذيبُ الاشتياق وتتحوّل إلى شُموعٍ، مما يربط بين الألم والتضحية والنور الناتج عنه.
الأبواب والبوح: «فأنت الرجاء، وبابك لا يُمنع» — الباب هنا رمز الرحمة والمغفرة، والصورة تُطمئن القارئ وتؤكد إمكانية العودة.
الأسلوب واللغة
لغة فصيحة رشيقة، متأثّرة بالتراث الدينيّ والروحانيّ (نبرة الأناخات والابتهالات).
استخدام الأوزان والإيقاع: القصيدة تميل إلى شِعريّة مُوزونة في النبرة والوقفات، مع قوافٍ متقاربة تمنحها رنينًا وانسيابًا (نهايات مثل: «الرجوع، الخشوع، الشموع» تُولِّد صدى صوتيًّا موحّدًا).
التكرار والتوكيد: تكرار الفعل الدعائيّ («دَعَوْتُكَ… نَادَيْتَنِي…») يخلق وقعًا دراميًّا ويقوّي علاقة المخاطَب بالمخاطَب إليه (الله).
المفردات العاطفية البليغة: «أفيض»، «أشواق»، «شموع»، «خسف»— كلمات تُحرك الحواس وتبني تجربة وجدانية ملموسة.
الإيقاع والانفعال
تتدرّج القصيدة من سمفونية اشتياق هادئة إلى منشدّ تضرّع، ثم إلى رجاء مطمئن؛ أي من الحنين إلى الطلب فالطمأنينة. هذه الحركة الدراماتيكية تجعل النصّ تجربةً روحية متكاملة: ألم → رجاء → شفاعة → أمان.
قراءة دينية/تصوفية
يمكن قراءة النصّ في إطار التجربة الصوفية: المحبّ الذي يذوب في حضور المُحِب، التوحّد بالمحبوب حتى تبدو الذات كأنّها «شمعة» تذوب لتضيء. كذلك ثمة اعتمادٌ على مفاهيم الشفاعة والرحمة والباب المفتوح، وهي محاور شائعة في أدب المديح والتوبة والذكر… [نيابوليس الثقافية]