الصفحة الرئيسية الفلسفة الإنسانيّة على مفترق الطرق: من يقينيّات الحداثة إلى كارثة العصر، ومن غُنم العقل إلى غُرمه!!

الإنسانيّة على مفترق الطرق: من يقينيّات الحداثة إلى كارثة العصر، ومن غُنم العقل إلى غُرمه!!

كيف أودت يقينيّات العقل الإنسان إلى الخراب من منظور بيتر سلوتردايك؟

0 مشاهدات 4 دقائق اقرأ

ليس من المستبعد أن نتساءل في قرارة أنفسنا عمّا حلّ بالإنسانيّة من إرهاصات فكريّة وخيبات أودت بها إلى ما هو كارثيّ. والحقّ أنّنا لا نتقصّد سردًا تاريخيًّا بعينه أو تشيّعًا لأحداث ماضويّة هضمها الدّهر البعيد. سنتعامل هنا مع واقع إنسان هذا العصر تعاملاً تشخيصيًّا يخرّب من الأسفل نواميس الأيديولوجيّات الإمبرياليّة منذ ردح كبير من الزمن، أو فلنقل صراحة منذ بزوغ عهد الحداثة ويقينيّاتها وصولًا إلى ما نعيشه اليوم. فما الذي يطلبه منّا النقد داخل سؤال الحداثة؟

ما يحملنا على هذا الطرح هو ذاك الاقتتال الذي لم يسبق له التاريخ مثيلاً، حيث أُعلنت تباشير الحرب فعليًّا تخبرنا بوضع كارثيّ وشيك. “لم لا يتحمّل الناس بعضهم بعضًا؟” سؤال كان قد طرحه كانط من قبلنا، وكأنّه كان أكثر نورانيّة منّا. فمقاييس الحكم الأخلاقيّ تبدّلت: فما كان ألمًا تحوّل إلى غبطة، وما كان شرًّا أصبح رأس الطمأنينة والسكينة. ثمّة ضرب من التسارع يجعل مرحلة الشكّ الديكارتيّة محض لعبة ماضويّة؛ ذلك أنّ ما شهده التاريخ الإنسانيّ من رسوخ لليقينيّات والاعتقاد في امتلاك مطلق للحقيقة هو ضربٌ من الدوغمائيّة التي شجبتها الأفكار التنويريّة. لن يكون هناك عقل خالص ينظر للقيم الإنسانيّة في مراوحة معهودة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون داخل تاريخانيّة تجاوزتها الأزمنة الحديثة. فلحظة تعقّبنا للسير المجنون لأزمنة التنوير بعامّة وما زُعم تحقيقه بخاصّة، نقف لزامًا عند التحوّلات العلميّة ذات التبعات الأنطولوجيّة المخيفة والإيتيقيّة التي ما تنفكّ تكون كارثيّة.

هذا ما فعله بيتر سلوتردايك[i] من خلال استعارته الطريفة لمشرطه بعد تعقيمه ليشقّ به جراح الواقع المريض ويستخرج منه العفن. فمع الكارثيّ تنكشف بربريّة وضيعة ومخزية دفينة، موضوعيًّا في البشريّة، تتفعّل تاريخيًّا كأنّها موضوعيّة صمّاء {التطوّر التقني والتكنولوجي}، فتصيب العقل عمًى وانعماءً على حدّ عبارة أدورنو. فبدلاً من مقاومة هذا الخطر الداهم {من قبيل الحرب والفتنة}، وقع الإنسان في سخط التآمر ورغبة حدوث هذا المسخ.

ورجوعًا إلى مختلف التحالفات الجيو-عسكريّة سنجدها تسلّط أضواء الفضيحة على المجتمع الغربي نفسه الذي رغب في حدوث الكارثة، بل هو من سعى حثيثًا لأن تحدث داخل غرفة البرجوازيّة المظلمة ومجتمعات الفرجة والاستهلاك.

يبدو أنّ الأمر أكثر تعقيدًا وخطرًا ممّا نظن. فهذا الكارثيّ، من شدّة موضوعانيّته، ليس فقط تاريخيًّا، بل قد يتحوّل إلى شيء منشود نرغب فيه، فهو سيلانيّة تتعدّى كلّ الذوات. أضحى الواقع يشي “بحرب الكلّ ضدّ الكلّ”، لكن ما هو بيّن للعيان مجرّد أهازيج وهالولوّات ترحّب بما هو إنسانيّ مشترك، في حين أنّ رأس الأمر يبدو مختلفًا ومرعبًا. جدليّة الوجه والقفا هذه زادت من مآزق هذه المرحلة بل عرّت فصاماتها.

وعودًا على ما فعلته هذه الأحداث في واقع غدا برمّته مظلمًا، سنقول إنّ أهمّ ما يمكن الوقوف عنده هو الإحراجات والاختناقات التي صار إليها العقل الغربيّ. والحال هنا هو دقّ ناقوس الخطر الذي ننذر به من هذا الوضع ذا الوقع المتسارع، حيث بدا يلوّح في الأفق بما جاء به التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ المتزايد، الذي أضحى برمّته يشكّل سرديّة كارثيّة أكثر من أيّ وقت مضى.

ما يعزّز تباشير هذه المرحلة هو حالة التصغير التي وصل إليها العالم، فأصبح مجرّد ترس في آلة ضخمة داخل الأنظمة الأيديولوجيّة والاقتصاديّة التي تنسج خيوط الكارثة التي توشك أن تحدث. ولعلّ السؤال الأكثر دنوًّا منّا سيكون في التساؤل عن مآلات الإنسان في سياق هذا الانخراط التقنيّ والتكنولوجيّ غير المسبوق.

فمركز ثقل هذه السرديّة هو ذلك الذي شخصته فلسفة سلوتردايك بـ”قبليّ الألم”. فرغم نجاح وغُنم العقل الغربيّ من مثل التطوّر التقنيّ والصناعيّ، فإنّه يعجّ بالإحباطات. هذه الوعود، من مثل رفاهيّة البشريّة وتقدّمها، لم تُحقّق إلا مصائب وانتكاسات قسّمت الكينونة الإنسانيّة إلى أشطار متشظّية بحسب النهج المتسارع الذي عُمد إليه.

وبات العلم يدفع ثمن ما أنتجه من تكنولوجيات حربيّة خدمت كلبيّات الأسياد، لتسفر عن ملايين من القتلى. ومن هذا الواقع السيزيفي للوضع البشريّ تتحطّم مركزيّة الكينونة وتذهب معقوليّتها؛ فنحن لسنا ذواتًا ولا حتى وعيات، بل ولسنا “كوجيتوهات“، وإنّما نحن سبب رئيس في هذا الدمار والخراب الشامل. إذ تبدّت الموضوعيّة وجرفت معها الحياد. إنّ الكارثيّ أبعد من أن يتحقّق على أساس وعي، هو هذا الحدّ الأقصى لعدم إنسانيّتنا.

فحديثنا عن ضحايا الحرب لن يكون مجرّد أرقام، وإنّما هو تفعّل وحشيّ دفين فينا، صمتٌ تجاوز قدرتنا على الكلام. لمَ لا يعترف الغرب بحدوده؟ والأمر سيّان مع المجتمعات العربيّة: لمَ لا تعترف بما أنجزه عقلها آنفًا؟

اليوم نحن بحاجة إلى تلك الوقاحة المفقودة، على حدّ عبارة سلوتردايك: “تعيّن أن تقول الوقاحة ما يعيشه الإنسان”[ii]، كشفًا وتخريبًا لصلف وغبش العقل الغربيّ وهو ينادي بمزاعم الحرّيّة والكرامة. فالوقت حان للاعتراف بأنّ كلّ إنسان يحمل حقّه من الأرض جوّانيًّا، فحقّ الإنسان في تقرير مصيره ليس هبة، وإنّما هو الحقّ عينه.

ولسنا نودّ أن نختم قولنا قبل التذكير بالغُرم الذي ألحقته القوى الكلّيانيّة بالإنسانيّة جمعاء. نحن نكتب ليس غرضًا في الكتابة، وإنّما الحال هنا يستوجب منّا ولو قليلًا من المسؤوليّة تجاه الإنسان. فلقد طالما وعدت فلسفة التنوير بتحقيق تلك اليوتوبيات المفقودة والسعادة الأزليّة بواسطة الإنسان الخارق، حيث لا موت ولا شقاء، إنسان برتبة إله يكون قادرًا على استيعاب الطبيعة وسيدًا لقراراته كما يكون صانعًا لتاريخه. إلا أنّ هذه الطموحات باتت تتعدّى مسألة تسخير الطبيعة.

هذه المزاعم التحريريّة قادت إلى نزعة بربريّة ومنهج أداتيّ كرّس غايات دون تساؤلات إنسانيّة. وربما هذا ما جعلنا نقرّ بحقيقة مفادها أنّ هذا العقل الأنواريّ في حاجة لأن يتنوّر من جديد.

لقد أصبح مستقبل البشريّة بين المطرقة والسندان. والحقّ أنّ هذا الوضع الكارثيّ لم يكن وليد اللحظة، وإنّما هو فعاليّة تاريخانيّة متجدّدة لا تنفكّ تتوعّد البشريّة بالانقراض، وكأنّنا نقف على حافّة النهايات. سيناريوهات باتت حقيقة معيشة تتوعّد وتوفي بوعودها، محمّلة بعواصف نوويّة مهلكة. وما يزيد الألم هو يقينيّة فنائنا، إذ حتّى وإن لم تقضِ البشريّة نحبها إثر المواجهات النوويّة أو بالإشعاعات، فسوف تموت جوعًا وبردًا جرّاء ما ستسبّبه هذه الكارثة من اهتراء لطبقة الأوزون، ممّا سيسمح بتسرّب كميّات مهولة من الأشعّة فوق البنفسجيّة إلى سطح الأرض. وهذا ما سيخلّ بكلّ المنظومة البيئيّة فيستحيل على الإنسان التعايش مع الطبيعة من جديد.

  • باحثة تونسية
    أستاذة وباحثة دكتوراه فلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة تونس

اقرأ أيضا

أترك تعليقا