زُقاق
يُعششُ في رأسي
أعينه
مرشوقة في وجهي
أشعر أنّ الزقاق
صُنع لأجلي
قلوب
أبوابها مؤصدة
لا أقوى
على فتحها
إنّها أبواب مغلقة،
وراءها أسرار،
أعين مترصدة
تُفتح
عندما أُغلق
على فؤادي
كل مساء
في الصباح
أترك الزقاق
ألتقي
بعطار الحي،
ينثر الخبز
في أفواه الدجاج
يرسل لي
رسالة
عبر ذبذبات
صوته المتعثر،
كلمات بالعربية
الفصحى المكسّرة:
“الخبز لن يأتي اليوم،
فأفران الحي مغلقة،
لأن الطحين هاجر
إلى طاولات
فطور الصباح المنمقة.”
ثمّ يغلق بثّه
بعد سرده
نشرة أخبار الصباح،
عن المحتكرين،
والمتآمرين،
وقلة السياح
في ذلك الصباح،
عجوز تهوى
الكلام بصوت عالٍ
تمرّ بجانبي،
تصطاد في
زوج لابنتها
التي كبر سنّها،
ولم تجد من
يتزوجها
ويرعاهما
فأقول في نفسي:
أرجو أن لا تراني،
فأنا لا أملك
حق الزواج بثانية
وهي من
فرط حزنها عليها
غاضبة من
كل ديوك
الحي النائمة،
لأنهم يسهرون
مع تلك
الدجاجات المتمرّدة،
فيفوتهم وقت
أذان الديكة،
فلا توقظها
في الصباح كعادتها
لتواصل البحث
عن عروس لابنتها
فهي الآن راضية
حتى بذلك الديك
الذي يستفيق
في المساء
إنها عجوز
استهلكت عمرها،
وباتت تعد
لهروبها الكبير
وتخشى أن يذهب
الإرث لأبناء أختها،
فهي تسعى أن تؤمّن
حفيدًا يرثها
أخيرًا،
وصلت الحدود
استوقفني
حرسُها
أعلن أنه
يعلم أنني عدت
البارحة متأخرًا،
وأنني كنت
أحمل باقة
من الورد
حمراء
كدم الشهيد
قال:
هي خمسة
أو هي سبعة
ورود،
أنا لا أنتبه
ولا أتجسّس
على الجيران
والحدود
قلت: أنت
حرس الحدود،
وعليك أن تنتبه
لمن يُدخل
السلاح المحظور
أو الورود،
ويهدد زقاقنا الحبيب
قال لي فخورًا:
أنا هنا لا تخف،
أنا في كل مكان،
أنا في كل
شقوق الزمان
أنا غبار الشبابيك،
ورطوبة الحيطان،
لن تفلت من أعيني
السحلية والنملة،
وأكتب في ملفاتي
كل تحركات
العابرين والداخلين،
والمحتكرين،
والمهرّبين،
والضبّ المتسلّل
ليقلق
راحة الساكنين
وأردف يدعو الله
أن يعطيه جارًا
بلا عينين،
لأنه يحس
أنّ هناك حاسدين
قدّمت له التحية،
وقلت:
أنت حقيقة نِعم الجار،
ونحن بك في
مأمن مكين آمنين
عبرت الحدود
نحو شارع الغربة
وضوضاء المدينة
نظرت إلى الزُّقاق
ورائي،
إنتابني
حنين لوطني
انطلقت مغتربًا،
ولكن لي أمل
أن أعودْ
أعودُ
للأبواب المغلقة
وحارس الحدود،
وعجائز الشبابيك،
والأعين الحارسة،
والعانسات،
والمهرّبين،
والسياسيين،
والمدخنين،
والزطّالين
في الزُقاق لي حنين
للأعشاش التي
بقيت فارغة،
لأن الخطّاف
تركها وهاجر خلسة
تحت جناح الليل،
تاركًا رسالة فيها:
“قطعوا عنا
الماء والكهرباء،
وطردنا
صاحب العشّ اللعين،
لأننا لم نستطع
دفع إيجار خمسة سنين،
فنحن هناك
ذاهبون،
فموتنا الثاني
لن يكون أقسى
مما كنا فيه معذبين.”
في ذلك الزُقاق،
يقتلني الحنين
حنين للبراءة،
وللعب بأديم الأرض
حنين لرائحة
رطوبة التربة،
عندما نحفر الأرض
بأكفنا الصغيرة،
نبحث عن كنز مفقود،
أو دودة
الأرض المسكينة
كنّا نغتصب أرضها،
ونهدم منزلها
ونحن نفعل
ما نفعل بها،
نحس بالخوف
والسلطة
ولأنها لا تشبهنا،
ولا نفهمها ولا تفهمنا،
ولأنها مُخيفة نظراتها،
مختلفة عنّا،
كنا نقرر إيقاف
الحوار معها،
ونحكم عليها
أنها معادية،
فنقتلها
في الزقاق
كل صباح،
لا أعلم لماذا
ألتفت لزاوية،
أقاوم الجاذبية،
فتنهزم إرادتي،
وتنتصر تلك الزاوية
المكان يحكمني،
ويمسك بأطرافي
المكان
كان لي يومًا
كنت فيه
أصغر برقم،
أصغر بيوم،
أصغر بعمر
الزاوية
مكان بطولاتي،
وصولاتي، وجولاتي
حملت
فيها ميدالياتي
في النفخ على الورق،
ودحرجت الكجّة،
والغميضة
زقاق عشش
في رأسي،
لا يريد الرحيل
هو يبعث فيّ اليوم
الحزن والحيرة والأنين،
ولكنني أعيش فيه
بذكريات الطفولة
التي لا تريدني
أن أرحل عنها،
لأهاجر
لزُقاق الآخرين
ذكريات
تتحكّم
في زاوية نظري،
وتجبرني
أن أكرّم
كل مكان داست
عليه قدمي،
وأطلقت فيه ضحكاتي
هذا الزُقاق
يرهقني ويضنيني،
ولكن كيف أستطيع
أن أُشفى من
إدماني وحنيني؟
بقلم / محمد هادي عون