تمهيد:
لم يكن محمود درويش مجرّد شاعر فلسطيني، بل كان صوتًا جمعيًّا للمنفى الفلسطيني، وضميرًا شعريًا لعصر عربي بأكمله. مثّل عبر نصف قرن من الكتابة تطوّرًا نوعيًا في البنية الشعرية والموقف السياسي والرؤية الإنسانية. هذا البورتريه لا يسعى فقط إلى رسم ملامح وجهه، بل إلى تأمل وجه القصيدة من خلاله.
أولًا: جذور التكوين – “القرية التي هُدّمت وبقيت في القصيدة“
ولد محمود درويش في 13 مارس 1941 في قرية البروة في الجليل الأعلى بفلسطين. في نكبة 1948، هجّرت عائلته إلى لبنان ثم عادت سرًا لتجد القرية قد مُسحت من الخارطة، وهو ما ترك أثرًا وجوديًا دائمًا في وعيه الشعري.
يقول: “المنفى علّمني أن أرى الأشياء من مسافة، وأن أعيد تشكيل العالم بالكلمات.”
كانت هذه التجربة الأولى في المنفى هي التي أورثت درويش ذلك الإحساس المبكّر بالفقد، ودفعت به نحو بناء الوطن عبر الشعر، لا عبر الخرائط.
ثانيًا: ملامح الوجه – “حضور في الغياب“
وجه محمود درويش لم يكن مجرد ملامح رجل وسيم بعيون حزينة وصوت رخيم. كان وجهه رمزًا ثقافيًا، يختصر التاريخ الفلسطيني كله، من النكبة إلى الانتفاضة.
في صوره نرى رجلًا في صمت دائم التأمل، عيناه تشبهان نافذتين تطلان على مدن غائبة، وفمه لا ينطق إلا شعراً. مظهره الأنيق ولغته الشفافة جعلاه أيقونة للشاعر العربي الحديث، الشاعر الذي يحمل الوردة والبندقية، الديوان والمنفى.

ثالثًا: تجربة الكتابة – “من الهُوية إلى الوجود“
مراحل تطور الكتابة عند درويش:
1- مرحلة الالتزام المباشر (حتى 1970)
- ارتبط شعره بالهوية والمقاومة.
- قصائد مثل “سجّل أنا عربي” و”بطاقة هوية” تمثّل هذه المرحلة.
- أسلوب مباشر، شعاراتي، مليء بالغضب والنبرة الثورية.
2. مرحلة التأمل والرمزية (1970–1987)
- تطوّر في الشكل والمضمون، إدخال الرمز والأسطورة.
- ديوان “مديح الظل العالي” و”أحبك أو لا أحبك” يكشفان شاعرًا يبحث عن المعنى الإنساني.
- حضور كثيف للموت، المنفى، المرأة كرمز للوطن.
3- مرحلة الفلسفة الشعرية (1987–2008)
- قصائد مثل “جدارية” و”حالة حصار” تشهد نضجًا فلسفيًا.
- التفكير في الزمن، المصير، الإنسان، اللغة.
- تخلّص من الخطاب المباشر لصالح قصيدة المعرفة.
رابعًا: درويش واللغة – “كأن العربية خُلقت من أجله”
كان درويش ساحرًا لغويًا بامتياز. امتلك قدرة على إعادة تشكيل البلاغة العربية من الداخل، فكانت لغته تجمع بين الفصاحة والحميمية، بين القديم والجديد، بين النثر والشعر.
يقول الشاعر سركون بولص: “كان درويش يكتب بلغة هي الموسيقى ذاتها.”
من أبرز سمات لغته:
- الإيقاع الداخلي: حتى حين يكتب نثرًا، يحتفظ بإيقاع شعري خفي.
- الرمزية المكثفة: استعارات مستمدة من التراث والتاريخ والأسطورة.
- التكرار البنائي: لبناء توتر وإيقاع.
- اللغة الفلسفية في المراحل الأخيرة.
خامسًا: درويش والهوية – “أنا من هناك“
لم يكن درويش شاعر “الوطنية” فقط، بل شاعر الهوية المركّبة. كان فلسطينيًا، عربيًا، عالميًا، وكان واعيًا بتناقضات الهويات:
“أنا من هناك. ولي ذكريات…”
يقولها لا كمن ينتمي فقط، بل كمن يتأمل الانتماء ذاته.
هوية درويش ليست مغلقة، بل منفتحة، وهذا ما جعله محبوبًا في بيروت، وفي تونس، وفي باريس، وفي رام الله. هوية شعره كانت دائمًا سؤالاً، لا جوابًا.

سادسًا: درويش والسياسة – “القصيدة سيدة الموقف“
لم يكن درويش “شاعر السلطة”، رغم قربه من منظمة التحرير. لم يكتب قصيدة مدح، ولم يتنازل عن استقلال القصيدة.
استقال من اللجنة التنفيذية للمنظمة احتجاجًا على اتفاق أوسلو عام 1993.
قال: “أنا لست ناطقًا باسم أحد. أنا شاعر فقط.”
هذا الموقف جعله صوتًا حرًّا، يعبر عن همّ جماعي بلغة ذاتية راقية.
سابعًا: الموت في شعر درويش – “جدارية القلب“
منذ أواخر التسعينات، بدأ الموت يحتل مكانة محورية في شعره.
ديوانه “جدارية” (2000) هو عمل تأملي وجودي، يعيد فيه الشاعر صياغة علاقته بالحياة، بالموت، وباللغة.
“هذا هو اسمك، قالت امرأة، وغابت في الممر اللولبي…”
في هذه القصيدة، يرثي نفسه، يكتب نُصبه الشعري، ويخلّد صوته في مواجهة العدم.

ثامنًا: الإرث – “محمود درويش، إلى الأبد شاعر دولة الحلم“
توفي محمود درويش في 9 أغسطس 2008، ودفن في رام الله، لكنه بقي حيًا في:
- المدارس والجامعات.
- الأنطولوجيات الشعرية.
- الحفلات الموسيقية (كاظم الساهر، مارسيل خليفة…).
- الذاكرة الشعبية الفلسطينية.
أعماله تُترجم إلى عشرات اللغات، وتُدرّس في جامعات العالم، لكونها تمثّل تقاطعًا نادرًا بين الشعر والسياسة والفلسفة والجمال.
خاتمة:
إن بورتريه محمود درويش ليس مجرد سيرة شاعر، بل سيرة وعيٍ شعريٍ عربيٍ حديث. لقد علّمنا أن الشعر لا يغيّر الواقع بالضرورة، لكنه يغيّر الطريقة التي نرى بها الواقع. جعل من فلسطين رمزًا للجمال والعدالة، ومن القصيدة وطنًا يسكن فيه كل من ضاع عنه وطنه.
“على هذه الأرض ما يستحق الحياة…”
وربما لم يقل أحدها قبله بهذا العمق، ولا بعدها بهذا الصدق.